الأزاميل والمطارق

سمير عطاالله (النهار)

يصاب التاريخ بكارثة كبرى إذا قام في بيئة جغرافية سيّئة. ومن سوء حظ التاريخ القديم برمّته، أنه عاش أزمانه في هذه البقعة من العالم. فمنهم من ينكره، ومنهم من يهينه، ومنهم أخيراً من يدمّره بالمطارق. وقد تكون مصر أكبر متحف تاريخي بين دول الأرض، متجاوزة روما واليونان والحضارات الأخرى. وكان أول تعيين حكومي للدكتور محمد مرسي بعد فوزه بالرئاسة، أن سمّى محافظاً على الآثار، رجلاً عُرف بدعواته المستمرة إلى تهديم التماثيل وإبادة المعالم التاريخية، وإنكار، أو حجب، كل ما يمتّ إلى الحضارة المصرية القديمة، باعتباره كفراً أو تجديفاً، وليس صفحة من صفحات التاريخ الإنساني جميعاً. وما حصل على أيدي “داعش” في العراق، ومن متاجرة فاجرة في تاريخ سوريا، وقبلها في تاريخ لبنان، إنما هو دليل على نظرة عامة لشعوب المنطقة إلى تاريخها وأسلافها. وقبل أن تصل “داعش” إلى ثروات الأشوريين معالم الحضارة العراقية الكبرى، كانت الدولة العراقية نفسها قد سدلت الستار على ذلك الفصل العظيم من تاريخ البشرية، وأبقت للعراق رجلاً مفدّى واحداً، يتعيّن على الناس أن تحفظ الجريدة إذا ورد اسمه فيها تحت طائلة العقاب الشديد، إذا أُهينت الجريدة أو رُميت في غرفة الفندق.

ثار الفرنسيون على ملوكهم وأبقوا جميع القصور، وثار السوفيات على القيصر وأبقوا جميع التحف. وثار العرب على من قبلهم فأعلنوا كل شيء بائداً إلاَّ صورة الزعيم المفدّى. لا أعرف بالضبط نسبة ما تشكّله آثار سوريا والعراق ومصر من المتحف التاريخي العالمي. لكننا نعرف مثلاً أن واشنطن المحرومة تاريخاً قديماً، حاولت أن تقلّد روما حجراً حجراً. وكان قد سبقها إلى ذلك أدولف هتلر حينما أراد العثور لألمانيا على تاريخ أبعد مما هو معروف على ضفاف الراين، فحاول أن يجعل برلين روما أخرى. وحتى الفاشي بنيتو موسوليني، الذي ورث روما نفسها وتربّع على كتفيها الجميلتين، سعى هو أيضاً إلى أن يبني روما إضافية لها معالم العصر وتراث التاريخ.

نحن هنا لم نزل نحاول ما يُسمى توحيد كتاب التاريخ. ولكن من أين نبدأ؟ هل من أن نصْف اللبنانيين، على الأقل، يحتقرون تاريخهم القديم، ويرون في صيدا وصور عدواً لشخصية لبنان العربية؟ أم في النصف الآخر الذي يرى أن الحياة لا تكون إلا بالعودة إلى أسوار صور وقلاع صيدا حماية لها من المدّ العربي وآثار الفتح الإسلامي، الذي بلغنا كما بلغ سوانا، بدءاً بمصر وسوريا وبلدان الغرب وصولاً إلى ضفاف الدانوب وبساتين الأندلس؟

نحن شعوب تؤمن أن التاريخ هو ما تقول، وليس ما حدَث. وقبل أن تبيد “داعش” بالمطارق أشكال التاريخ العراقي وتبيع آثار التاريخ السوري، كانت الدول المعنيّة نفسها قد أظهرت من الإهمال لثرواتها ما لا يصدَّق. في العام 1998 قمت مع أصدقاء لي بجولة على سوريا التاريخية. وكان هناك أمران لا يُصدقان: الأول عظَمة المعالم التاريخية وجمالها وجاذبيتها من روعات تدمر إلى قلاع حلب. الثاني الإهمال المريع الذي تُعامل به تلك الآثار العظيمة، التي تُرك أمرها لبضعة أدلاَّء بُسطاء تعلّموا التاريخ على أنفسهم، وتعلّموا اللغات يُخاطبون بها من غامَر من السيّاح بالمجيء من غير أن توجّه إليه تهمة الاستعمار والتجسّس.

نحن نندب اليوم كالنساء آثاراً لم نعرف كيف نحافظ عليها كالرجال. وهذا دأْب جميع الشعوب الغافلة عن تاريخها، المُبعدة عن يومها ومستقبلها. فالتاريخ يمرّ بنا ولا يمرّ علينا. وهو لا يُترك للمؤرّخين وعلماء الاجتماع والخبراء، وإنما يتسلّمه زعماء القبائل الفكرية والثقافية، فيلغون منه ما يشاؤون، ويعظّمون ما يشاؤون، ويحقّرون ما شاؤوا. لذلك، جميع ما كتبنا في التاريخ مشكوك في صحّته، أو في دقّته في أحسن الأحوال، وما هو صالح منه كمراجع علمية وضعه لنا العلماء الأجانب الذين تولّوا هم أيضاً، اكتشاف كنوز مصر والعراق وسوريا ولبنان وغيرها.

نأمل ألاَّ تصل “داعش” إلى ديار الأندلس ومعها مطارقها، فيتهاوى قصر الحمراء وتزول غرناطة غباراً على الأرض، وتُهدم حدائق طليطلة المعلّقة مثل جنائن بغداد التي لم يعد لها وجود. نخشى أن يحدث للوادي الكبير ومدينة الزهراء ما حدث لآثار حتشبسوت في مصر قبل عقدين عندما هاجم مجموعة من النيِّرين موكباً للسياح الألمان فبقروا بطون السائحات ومن ثم تناوبوا على اغتصابهنَّ. وكان بين أولئك النبلاء ثلاثة من تلامذة كلية الطب. كل ذلك كان احتجاجاً على تعلّق الناس بالآثار، وحبّها لأبي الهول ورمسيس أو بُناة الأهرام.

في شبابنا كنا نقف ساعات في الطوابير أمام “الغران باليه” من أجل الوقوف لحظات أمام تمثال نفرتيتي الذهبي. وكان المرء يشعر يومها أن معرض مصر موازٍ لمتحف اللوفر على الجهة الأخرى. وفي أي حال فإن تاريخ فرنسا الحديث نسبياً ليس فيه نيل ولا نوبة ولا أسوان ولا الأْقصر ولا وادي الملوك ولا الأحرف الهيروغليفية، التي فكّ رموزها العلماء الفرنسيون عندما جاؤوا مع نابوليون بونابرت، الحالم بإمبراطورية شرقية إلى جانب أمبراطوريته الأوروبية.

أيهما أفدح أن يهجم الدواعش بالمطارق على آثار آشور، أم أنه لم يبق في العراق آشوريون يرثون الحضارات الأولى؟ المشكلة، أو الكارثة التي طالما واجهها هذا الجزء من العالم، ليست في طرد التماثيل، بل في إبعاد الأحياء. كان الآشوريون والكلدان أول من دفع الثمن في العراق في العشرينات عندما فتح لبنان أبوابه أمامهم، وكان لهم منه ميشال شيحا، أول مفكر في لبنان المعاصر.

تتمتّع ليبيا، التي كان ينسب سعيد عقل إليها أمومة قدموس وأوروبا، بتاريخ نادر الثراء. فهي من جهة امتداد لمصر الفرعونية وما بعدها، ومن جهة أخرى، جارة اليونان وروما. وكان صاحب “زوربا” نيكوس كازنتزاكس يقول: “كلما وقفتُ على تلال كريت أتأمل، طالعني البحر الليبي”. لكن هذا المتحف الأثري الآخر بُليَ أيضاً بثقافة الجهل. ففي مرحلة ما قُطعت جميع رؤوس التماثيل القديمة وتُركت مجسّمات مشوّهة لتاريخ فائق الجمال. رفْض النظرة العلمية إلى التاريخ أدّى إلى إغلاق الماضي ودفنه تحت المقابر المفتوحة والمنثورة في كل مكان بلا أي اهتمام أو حراسة أو تقدير.

وكانت تجربة طه حسين “في الشعر الجاهلي” نموذجاً للتعامل مع التاريخ بالعنف الذي نتعامل فيه مع الحاضر وندقّ به أعناق المستقبل والمصير. حاول عميد الأدب العربي المتخرّج من الأزهر والسوربون معاً، أن يطبِّق ما سماه “البحث الديكارتي” على الشعر الذي ردّد أنه “ما يُسمى الشعر الجاهلي”، وقد كانت نظريته العلمية تؤكّد بالإثبات والشواهد أن معظم الشعر الجاهلي منحول ومنسوب كَتَبه اللاحقون، إما للتكسّب وإما للمتعة الشخصية. أحد الأمثلة التي يقدّمها أن امرأ القيس الذي يُفترض أنه طليعة أصحاب المعلّقات، كان ابن شقيقة المهلهل، ومع ذلك لا تردّ في شعره كلمة واحدة عن خاله الذي ملأ الأساطير والحكايات.

كان يفترض، بكل بساطة، أن تكون مطالعة طه حسين باباً للنقاش والبحث وإعادة النظر في الموروثات الضعيفة والمشتبهة. لكن الذين ردّوا عليه فعلوا ذلك بالمطارق والمعاول، وكالعادة، بالتعنيف والتخوين والتكفير. وربما كان يسهل على العلم أن يهزم نظرية طه حسين، لكن العلم ظلّ غائباً، وبقيت الحقيقة غائبة معه، وحتى اليوم لم يُضف أحد كلمة إلى ما كتبه المصري العظيم، ولا نقد كلمة واحدة أيضاً.

عشرات الكتب صدرت عن شكسبير تقول إنه مجموعة شعراء. وصدر قبل أعوام كتاب فرنسي لعالم بلجيكي يقول إن كورناي وراسين كانا شاعراً واحداً. ومنذ القِدم أطلقت الشبُهات على أعظم آثار اليونان، أي “الألياذة” و”الأوديسة”. لم يصل أحد إلى حكم قاطع في أي من هذه الأمور، مع أن زمن شكسبير وكورناي وراسين كان مدوَّناً ولم يكن على لسان حمّاد الراوية الذي نُسب إليه حفْظ المعلّقات، واتهمه الدكتور طه حسين بأنه خلط بينها وأدخل عليها من عنديّاته ما أدخل. غير أن الجدل حول شكسبير أعظم شعراء الإنكليزية، لم يؤدِّ إلى تكفير أحد، أو تخوين أحد، أو إهانة أحد. ولا تزال سِيَر جديدة تظهَر عنه، آخرها عمل كبير للمؤرّخ بيتر أكرويد. وفي كل مرة هناك إضافات، أو نظريات جديدة، شأنها أن تُغني البحث والتراث، لا أن تؤدِّبه أو أن تقنعه أو تنهال عليه بالمطارق.

إن إحدى أهم ثروات العالم الحديث هي ثروة الفنون من نحت ورسم. ومع أن المثل الإنكليزي يقول “إن مال العالم لا يستطيع أن يشتري لك تاريخاً مغايراً” فإن دولاً كبرى مثل الولايات المتحدة واليابان وألمانيا حاولت أن تجمع العدد الأكبر من التحف كي يلحقها من العراقة صورة الهُواة على الأقل.

من الأفضل، في هذه الحال، أن نبيع تاريخنا لمن يهمه أمر التاريخ ما دمنا نبيع حاضرنا ونرهن مستقبل الأمة برمَّته في غربال الغبار. حالة سوريالية عالمية. ففي يوم المرأة العالمي، كان وزراء الخارجية العرب يلتقون في القاهرة برئاسة رئيس الدورة الحالية. وصدف أن الرئيس هذه السنة هو وزير خارجية موريتانيا. وصدف فوق ذلك أن وزير خارجية موريتانيا سيدة من نواكشوط. بدأت حقوق المرأة العربية السياسية من البلاد التي لا تزال تعمل حتى اليوم بنظام العبودية. لكن نواكشوط سبقتنا في مجال إنساني واحد على الأقل. وكانت قد سبقت الجميع قبل ذلك أنديرا غاندي وبنازير بوتو. كلتاهما قدّمهما العالم الثالث على الرجل، وكلتاهما سارَع إلى اغتيالهما. المرأة عَورة لا تُطاق طويلاً.