لا يابان هنا

سمير عطاالله (النهار)

كتب الأستاذ في هارفارد روجر أوين في “الحياة” أن “2014 كانت سنة كئيبة في الشرق الأوسط”. أيّ سنة لم تكن كئيبة في الشرق الأوسط؟ ربما هذه كانت الأكثر كآبة في الزمن الحديث. الآفاق مسدودة، يهبط عليها السواد كل يوم، والحياة تُبتذل باسم العدالة أو الشهادة، والشعوب تترحّل من المدن لا من الصحارى، والتفكّك يعشَوشِب في الأرض وفي النفوس. إنه مشهد قيامي، أيها البروفسور أوين، وليس كئيباً.
أو لعل الكآبة هنا بمعنى الانكسار، بمعنى الذُّل المتناثر على بيادر القحْط. لعله الجراد الزاحف على مشاعر الإنسان. لعله الحِداد على ضوع التاريخ، من عصر إلى عصر، ومن نهر إلى نهر، ومن بحر إلى بحر. لم يترك التاريخ الحديث شيئاً سوى الحزن.
لعالم من علماء التاريخ المقارن، يبدو المشهد من هارفارد “كآبة”. عارضاً نفسياً محشواً كوابيس وتشوّشاً. فقد مرّت أقاليم العالم بما هو أقسى. وتاهت الشعوب في القِفار. وخرج الروس من ستالينغراد ولينينغراد ليبنوا إحدى أكبر دولتين في الكون. وماذا عن اليابان؟ لقد جُعِلَتْ فأرَ القنبلة الذرية وأمثولة الرماد البارد الذي يمحو ما فوق الأرض، ويبرِّد ما تحتها.
لكن ثمّة فارقاً جوهرياً يا مولاي. عرب اليوم ليسوا اليابان، ولا هم ألمانيا، ولا روسيا. في عزّ الصراع الأميركي السوفياتي، ذهب جون شتاينبك (نوبل 1962) إلى روسيا، متجاهلاً اعتراضات مواطنيه والتُهم التي ألقيت عليه. كان هناك خراب كثير تركَه النازيون، وكان هناك روس يعملون. يفلحون ويزرعون ويبنون ويدرسون ويعملون. لم يتعرّف يومها إلى راعٍ سابق وعامل مناجم يُدعى نيكيتا سيرغيفيتش خروشوف لأن هذا كان في المدرسة الليلية مع زوجة ستالين، قرّر أن يتقدّم في الحزب. أن يعمل. وبعد سنوات قليلة سوف يصبح العامل الأوكراني خليفة ستالين في الكرملين، ولكن من أجل إلغاء الستالينية، ووقْف نفي المواطنين إلى سيبيريا، ودفنهم تحت ثلوج أوكرانيا بالآلاف.
جميع الذين مرّت عليهم عدَميّات الحرب العالمية قرّروا أن الانتصار لا يكون فقط على المحتلّ، بل أيضاً على البقاء خارج حركة التاريخ. بلاد إله الشمس والميكادو طلبت من خبير لبناني أن يُحيي لها صناعة السيارات التي طالما اشتهرت بها. جاك نصر على رأس “فورد”، عزّ الصناعة الأميركية، وكارلوس غصن على رأس “نيسان” في بلاد الميكادو. والأول كان يذهب إلى المدرسة في الكورة في باص الضيعة، صنع “فورد”، من أيام “أبو دعسة”. ثم رئيساً على “فورد”.
تزعّم جاك نصر وكارلوس غصن أهم صناعة سيارات في العالم، بينما بلدهما لا يزال يبحث في إقامة نقل رسمي، يوزّع سمسرته سلَفاً على القوى الراعية للناس، أسوة بالنفط الموعود والمطامر المُخجلة. الشعوب التي لا حياء عندها، لا أمل لها. الدول التي تبحث في قمامتها وسط هذه الروائح لا بد أن تئنّ وأن تفلِّس وألا يبقى ما تدفع منه رواتب الناس وأجور المياومين. وأن توفّر للأجيال الآتية، ولا ترتّب عليها الديون والفوائد ولا تترك لها سوى سمعة القباحة الأخلاقية في سرقة رغيف الناس، أو تلويثه، أو حجْبه عن آلاف البائسين.
قبل حرب جورج دبليو بوش على العراق، كان صحافي بريطاني يدافع عن حملة الاحتلال بالقول إن نظاماً ديكتاتورياً سوف يُخلع، لتقوم في العراق النهضة الصناعية التي قامت بعد إلحاق الهزيمة باليابان. وسوف يُقام في بغداد حُكم تمثيلي كالذي أقيم في طوكيو بدل برلمان رفع اليد واستفتاء المائة في المائة.
وكنت أقول للرجل هذا كلام مستشرقين. أي نصف معرفة ونصف تعليل للنفس. لأن الحاكم في اليابان هو الامبراطور، أما في العالم العربي فهو زوش، ربّ الآلهة. هو البداية التي لا نهاية لها. لفتة منه تُحيي أو تُميت، أو تُبيد جماعات بأسرها.
طبعاً كنت أتمنّى في داخلي أن يكون الحق مع الصحافي البريطاني. أن يعود العراق إلى النهضة التي عرفها أيام العهد الملكي أو النهضة الصناعية التي شهدها أيام أحمد حسن البكر. كما إنني أعرف أن العراق يُشبَّه بألمانيا لا باليابان. يبني، ثم يبني، ثم يدمّر كل ما بنى في جموح لا خروج منه. لا يابان في العراق. موت وانفجارات وفساد يفوق حكايات ألف ليلة وليلة.
هو نفسه الفساد الذي يُفتّت حجارة وقلوب بقية الدول أيضاً. الفساد الذي يضع في المواقع آكلة هناء الناس. والذي يضع فوق رؤوسهم من يحقِّر كرامتهم، ويعرِّيهم من معنوياتهم ويحوّلهم من عناصر وطنية خلاّقة ومُنتجة، إلى مخلوقات خائفة ومُرتعدة وقاصرة عن التفكير والإنتاج.
كنت أكتب دائماً عن سكان المدافن في القاهرة. كيف ترتضي دولة كبرى في جميع العصور، أن يعتاد الأحياء العيش في مدن الأموات؟ لن أشير إلى ذلك بعد اليوم. سمعت الوزير نهاد المشنوق يتحدّث عن سكان المدافن في طرابلس منذ 1956. ورأينا هذا الشتاء بعض أهل سير الضنية يتدفّأ على بقايا الخشب حول موقدة واحدة. والدراسات تعدّ للنفط والغاز والخلق الرديء والتشاوف على البسطاء.
“سنة كئيبة في الشرق الأوسط”. أليس من بقعة بغير كآبة؟ لا! مَن ليس كئيباً بكآبته فهو كئيب بكآبة سواه. مَن لا يريد أن يرى فُقْر طرابلس فقد رأى محزنات النازحين. مَن لم يرَ المشهد أمامه رآه على التلفزيونات. أي مَن لا يزال يتحمّل ذلك.
عندما ينهض العمالقة يدمّرون الصغار. كنّا في القرن التاسع عشر بلداً يعيش من زراعة التوت وصناعة الحرير. ملأ التوت الجبال، وصار صوت الأنوال يُسمع إلى أوروبا. وكبرت بيروت من بلدة إلى ميناء بفضل تجارة الحرير. ثم فجأة اخترع اليابانيون خيطاً قويّاً جميلاً من دون توت وشرانق. وما لم يقضِ عليه الخيط الياباني اللعين، قضى عليه الجراد الرهيب، الآتي من البحر قبل مائة عام تماماً، في مثل هذا الوقت. حملَته رياح كريهة، ثم فجأة ردّته صوْب البحر. “ريح غامضة” كما كتب إيليا حاوي. تلك كانت الريح الغريبة، هبّت ثم مضت، ولكن بعدما تركت الجثث والجوْعى والهجرة. كتب بايارد دودج، رئيس الجامعة الأميركية، أن أهل القرى كانوا يموتون، فتُحوّل أبواب بيوتهم إلى نعوش يُدفنون فيها.
مائة عام على الجراد الطارئ الذي جاء ومضى. كأننا لم نخرج من جراد الأيام إلا فترات قصيرة. سافرَ الرجال وراء الرغيف إلى أوستراليا والأرجنتين وأواخر حفافي وضفاف الأرض، بينما كان الانكشاري يُصادر أي شيء أمامه. فقد كان جائعاً هو أيضاً وخاملاً وجاهلاً.
العقل القادر على القيام من الكارثة، اخترع الخيط بلا توت أو شرانق. أفقرَنا. ثم أفقرَ اليابانيون البحرين والكويت والجوار عندما اخترعوا اللؤلؤ الصناعي وصاروا يُنتجونه من المزارع بدل قاع البحر قُبالة المنامة. ترك الغواصون البحر واللالئ وعادوا إلى بيوتهم فقراء، فيما غمر اللؤلؤ الياباني أسواق العالم، وخصوصاً أسواق الخليج.
العاملون ينهضون. من رماد هيروشيما قامت اليابان لتُصبح بعد سنوات قليلة ثاني اقتصاد في العالم. وقامت ألمانيا الغربية لتُصبح الاقتصاد الثالث، وقامت فرنسا دولة متقدّمة الصناعات.
ثمّة ورشة كبرى في العالم العربي اليوم. ورشة دموع ودماء وتشريد وخيام. 30 مليون مشرّد، هو أعلى رقم منذ الحرب العالمية الثانية. وفي أي حال، لم تكن لهم أعمال ولا بيوت لائقة ولا حياة آمنة. وثمّة ورشة أخرى: تضاعَف سكان مصر منذ نصف قرن أربع مرات. نصفهم لا يعرف المستوى العادي من الحياة. وجميعهم يعملون في السياسة مثل معظم العرب الذين لم يُوقنوا بعد قول الإمام علي (ر) ما فحواه: كَثرة الأمل تُفقِد العمل.