في تصادم أولويات العرب وروسيا والولايات المتحدة

د.بهاء أبو كروم (الحياة)

تسعى الولايات المتحدة الأميركية أو بالأحرى إدارة الرئيس باراك أوباما إلى تسخير كل الإمكانات السياسية والعسكرية لخدمة الحملة على الإرهاب باعتبارها أولوية لسياستها في الشرق الأوسط. وعلى ضفاف هذه الأولوية تأتي الجهود التي يقوم بها وزير الخارجية جون كيري لأجل إعادة إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتأتي أيضاً مساعي الإستفادة من إيران ومراعاة مصالحها في سياق الحوار معها للتوصل إلى حل للملف النووي.

الأميركيون يريدون من العرب الإلتحاق بهذه المهمة من دون الأخذ بهواجسهم والتطلع إلى المشاكل البنيوية في المنطقة العربية، ومن دون التطرق إلى مسؤولية الولايات المتحدة في إلزام إسرائيل بقبول تسوية حقيقية تطوي صفحة الغضب العربي على أميركا والغرب، وفوق كل ذلك يأتي أيضاً التغاضي عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تفاقم التطرف في المنطقة. وعلى رأس هذه الأسباب ترك نظام الأسد من دون عقاب جدي وحقيقي. فهذا الطارئ الذي استجد مع بروز «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أصبح هو الزاوية التي تنظر الولايات المتحدة إلى المنطقة من خلالها.

جون كيري طلب من نتانياهو المساعدة في إطلاق المفاوضات مع الفلسطينيين لأن لذلك علاقة بالحرب على «داعش» وفي ذات الوقت أرسل أوباما رسالة إلى خامنئي تحثه على التوصل إلى تسوية في الملف النووي بما يساعد في القضاء على «داعش».

مبدأ المقايضة يظلل السياسات التي تعتمدها الإدارة الأميركية في المنطقة ويحتشد العرب إلى جانبها من زاوية المصلحة المشتركة بمكافحة التطرف لكن من دون الحصول على التزام بتنحية بشار الأسد أو بالحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، في مقابل بعض الوعود بتدريب المعارضة المعتدلة التي أصبح لديها أربعة أعوام من الخبرة في ساحات القتال! بالمقارنة مع حملة جورج بوش الأب على العراق التي أعقبت انتهاء الحرب اللبنانية ومهدت لانطلاق مسار مدريد وإرساء نظام إقليمي استمر حتى 2004، فإن إدارة أوباما تتحرك في ظل تأجج الصراعات وتفاقم للأوضاع في كل الإتجاهات بحيث يستدعي الأمر التساؤل عن الترتيب المتشابك الذي يمكن أن تنتهي إليه الأمور.

الفلسطينيون لم يجنوا مكاسب من هذه الحملة سوى حرب في غزة اندلعت بعد شهر على سقوط الموصل بيد «داعش» وارتفاع وتيرة الاستيطان واتخاذ الصراع بعداً دينياً بعد الاعتداء على الأقصى ومزيد من استقواء نتانياهو على أوباما بعد الانتخابات النصفية التي حسمت الأكثرية لصالح الجمهوريين. والمعارضة السورية لم تجن سوى استفادة مطردة للنظام السوري من الضربات الجوية للتحالف في الشمال وسيطرة المتطرفين على مساحات جـديـدة وإعـادة الاعتبار للدور الروسي المعروفة مآلاته، والعشائر العراقية المُعوّل عليها لمقاتلة داعش تتعرّض للإبادة نتيجة تركهم وحيدين في هذه المعركة في سيناريو يشبه مصير قبيلة الشعيطات في شرق سورية.

أمام هذا التخبط الاستراتيجي في السياسة الأميركية كيف كان للعرب أن يديروا أولوياتهم في مرحلة كهذه، طبعاً ليس من المنطقي مطالبة العرب بالتصرف باعتبارهم منظومة واحدة متفاهمة فيما بينها وتمتلك رؤى استراتيجية مشتركة، هذا من بديهيات الأمور إنما في المقابل فإن عدداً من الدول العربية امتلكت في كثير من الأوقات حس الجماعة العربية ووعت المصالح الحقيقية من موقع الأبوة وعملت على هذا الأساس.

وفي المرحلة التي تلت بداية التحولات عام 2011 أخذ العرب ينظرون إلى مصالحهم من مناظير متفاوتة، معظمها انكفئ إلى الداخل تاركاً الساحات مُشرعة أمام طموحات إيران من جهة والتطرف من جهة ثانية، ومن سوء حظهم أن أحداً من القوى الدولية لم يكترث إلى مسألة الاستقرار المجتمعي والسياسي في المنطقة وأن هذه التحولات حصلت في ظل قيادة الرئيس المتردد باراك أوباما في الولايات المتحدة والرئيس فلاديمير بوتين الطامح إلى بناء إمبراطورية جديدة في روسيا.

اليوم ترتفع الحاجة إلى العرب في صياغة النظام الدولي عبر مستويات تتعلق بالبعدين الاقتصادي والثقافي اللذين يحركان الأبعاد السياسية والعسكرية للقوى الرئيسية في العالم، فالتصدي للإرهاب تستوجب مكافحته ثقافياً، وهو ما تعجز عنه كل القوى العالمية في حال لم ينخرط العرب في هذا الجهد بقناعة حاسمة من خلال مؤسسات المملكة العربية السعودية ومصر.

والأمر الآخر هو التحكم بمستويات أسعار النفط الذي، وإن ليست للعرب مصلحة في استعماله كسلاح مثلما استعملت روسيا ورقة إمداد الغاز في وجه أوروبا، لا يجب أن يخرج عن دائرة الأخذ بالمصالح الحيوية للعرب على المدى البعيد.

نعم، العرب أقوياء هذه المرة لأنهم يكرسون تحالف القوتين البشرية والمادية ضمن رؤية استراتيجية واحدة تتمتع بالعقلانية وعدم التهور إلى حدود بعيدة والأهم من ذلك أن هذه الرؤيا تخلو من العقائدية المُفرطة وتعلي من شأن المصلحة المشتركة للأمة. تحالف مصر والمملكة العربية السعودية على ضوء التهديدات المشتركة يرسم مساراً غير مسبوق في ظل تحديد واضح للمخاطر ولأطر مواجهتها، وإن بدا أن الإمساك بالأرض ليس بالمهمة السهلة ولن تتم من دون الدخول في جولات سياسية وميدانية مُنهِكة، إنما من الواضح أن هذا الثنائي يشكل الآن المحور الرئيس للجذب في المنطقة بعد استهلاك إيران عناصر قوتها وبعد تبدد النموذج التركي نتيجة التطلع إلى قضايا المنطقة من زاوية الإسلام السياسي حصراً.

أتت ورقة أسعار النفط إلى أيدي العرب هذه المرة في ظل تزايد الضغوط على اقتصادات كل من روسيا وإيران لتطرح الأسئلة المعقدة في الكواليس الديبلوماسية في موسكو وواشنطن وطهران. الكل يبحث عن سبل لحماية اقتصاده من التهالك والانهيار والكل يؤكد مصلحته في عدم تسييس ملف أسعار النفط، والكل في حاجة الى موقف عربي بهذا الشأن، لكن الكل يتجاهل مصلحة العرب الحقيقية في السياسة! أما العرب من جهتهم فيلتزمون بالموقف الأخلاقي الحريص على استقرار الاقتصاد العالمي، موقف لا يقوم على المقايضة وفقاً للنموذج الأميركي المتبع في المنطقة ولا يقوم على استعمال النفط كسلاح أو الابتزاز باستعمال حق النقض في مجلس الأمن وفقاً للنموذج الروسي الذي استعمل هذا الحق ثلاث مرات لعرقلة الحل السياسي في سورية. فكيف سيكافأون على ذلك عندما يُطرح مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية في مجلس الأمن؟ بماذا ستصوت الولايات المتحدة؟ وأيضاً لو طُرح مشروع قرار يتعلق بإطار الحل السياسي والمرحلة الانتقالية في سورية، كيف سترد موسكو على انفتاح العرب عليها؟ هل ستستعمل حق الفيتو للمرة الرابعة؟