في التواطؤ على العراق والانقلاب عليه

د.بهاء أبو كروم (الحياة)

الإرث الذي تغنى به العرب لآلاف السنين حول التعايش بين القومية العربية والإسلام بات في جزئياته حلماً يشترط التعايش بين المكونات الإسلامية أولاً، وبات يصطدم بإيديولوجيات عابرة للحدود تدفع بمتطرفي الشيعة للقتال إلى جانب الأسد والمالكي متجاهلين أسس التعايش التي عاصروها في دولهم، وبمتطرفي السنة إلى القدوم من كل أصقاع العالم إلى ساحات الجهاد في المشرق هذه المرة.

فمن «عَرْقَنة» سورية ولبنان على أيدي بشار الأسد إلى «سَوْرَنة» العراق على أيدي نوري المالكي تتشكل حلقة مكتملة من الاحتكاك المذهبي الذي يرسم حدوداً دموية باتت تهدد منطقة الشرق الأوسط برمتها وتشكل بديلاً عن الحدود الجغرافية التي نعرفها.

قد يخفف إضفاء بعد سياسي للأمور من هذا المشهد، إذ إن المشاريع المتطرفة لا تقود إلا إلى صورة واحدة تعكسها البراميل المتفجرة التي يُسقطها حلفاء إيران على حلب والفلوجة، وتعكسها الإعدامات الجماعية التي تنفذها داعش، بينما يحتاج التعقل والاعتدال إلى عدالة حقيقية تفرضها على الأرض مؤسسات وطنية وترتكز في صلبها على سياسات دولية داعمة ليست كتلك التي عطّلت مجلس الأمن وأجهضت الشرعيات الحقوقية المتعلقة بحقوق الإنسان.

لقد أديرت المنطقة على وقع التواطؤ الذي حصل بين إيران والولايات المتحدة منذ طلبت الأخيرة من إيران مساعدتها في احتلال أفغانستان والعراق يقيناً منها بصعوبة رفض الإيرانيين هذا العرض انطلاقاً من خلفيات عقائدية. ورغم أن لهذا التواطؤ حدوداً وتباينات إلا أن ما يشهده المشرق العربي حالياً ليس إلا رد فعل ونتيجة فاقعة لهذا التواطؤ الذي يحمل في جزء منه فهماً عقائدياً ملتبساً مُستحكماً هو الآخر عند الأميركيين أنفسهم. فالرئيس باراك أوباما عبّر عن هذا الفهم عندما أفاض في الحديث عن القدرة البراغماتية والاستراتيجية لإيران في معرض رده على سؤال أيهما أخطر التطرف الشيعي أو التطرف السني. لم يتحدث عن تنظيمات شيعية متطرفة، بل تحدث عن قدرة إيران على أن تكون متطرفة وبراغماتية تقودها المصالح في آن واحد.

والواضح أن المقاربة التي عبّر عنها أوباما تعكس فهمه لحيثيات وشكل الاجتماعين الشيعي والسني، وذلك انطلاقاً من تركيزه على عملية التصالح مع العالم الإسلامي وذلك فور نجاحه في انتخابات 2008، وعكَس خطابه في جامعة القاهرة (حزيران/يونيو 2009) وخطاباته المباشرة للمسؤولين الإيرانيين بمناسبة عيد النوروز بدءاً من 2009 هذا التوجه، إذ أضيفت إليها رغبته في الخروج من حربين خاضهما سلفه في العالم الإسلامي. وعلى هذه الخلفية سارع إلى التفاهم مع الإخوان المسلمين بعد الثورة المصرية التي أسقطت نظام حسني مبارك.

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور تنظيم القاعدة كانت المقاربة الأميركية تركز على التطرف الإسلامي بشقه السني، وبقدرة هذا التطرف على التوالد بطريقة غير مركزية، إنما من دون تفضيل التطرف الشيعي عليه. إلا أن إدارة أوباما أضفت تواطؤاً سياسياً على هذه المقاربة ورهاناً على التوصل إلى تفاهم علني مع إيران يتجاهل الواقع الفوضوي الذي فرضته الجمهورية الإسلامية في المنطقة.

بعد تحرير الكويت من جيش صدام حسين عام 1991 نشأت ثورة شيعية في جنوب العراق حينها فضل جورج بوش الأب عدم استكمال الهجوم نحو بغداد وإسقاط النظام العراقي خوفاً من تفكك العراق ونشوء دولة موالية لإيران في جنوبه، تُرك الأمر لصدام حسين للقضاء على الثورة في الجنوب. بعد 20 عاماً تَرَك باراك أوباما العراق كله للإيرانيين بعد التفاهم معهم على المالكي رئيساً للحكومة. وذلك رغم معرفته المسبقة بالحيثية الجيوستراتيجية للعراق الذي يرسم الحدود بين العرب والفرس والأتراك والأهمية التاريخية لبغداد التي يصفها كيسنجر بأنها «خط التقسيم بين العالمين الشيعي والسُنّي». وعلى رغم معرفته أيضاً بأن المالكي غير مقبول عربياً نتيجة سياساته المذهبية.

لقد ضاع العراق بين رؤيتين للإدارة الأميركية واحدة قالت بنشر الديموقراطية بالقوة عبّر عنها جورج بوش الإبن (الذي أعماه الحقد على صدام حسين) وذلك انطلاقاً من أن حصول انتخابات شفافة ومشاركة الفئات السياسية في إدارة السلطة يكفلان الحد من التطرف، حيث يمكن نظرياً الاعتقاد بذلك، وبين رؤية أوباما التي ارتكزت على التصالح مع العالم الإسلامي كيفما أتت النتائج وذلك عبر الخروج من مستنقعه وإدارة التوازنات فيه عبر وكلاء معتمدين.

تضع التطورات التي حصلت في العراق مؤخراً الإدارة الأميركية أمام حقيقة لا بد أن تعترف بها. فالإرهاب في المنطقة ليس ظاهرة دينية ولا يتبع لمذهب بذاته، إنما هو ظاهرة سياسية صرفة يغذيها الإرهاب الرسمي المسكوت عنه، المالكي في العراق والأسد في سورية، وتغذيها المعايير المتفاوتة التي تعتمدها الإدارة الأميركية مع الفلسطينيين والعرب، وغياب الشرعية الدولية عن القيام بواجبها والتزاماتها.

التعويل على نوري المالكي في معالجة الأزمة في العراق لا يحمل جديداً فهذا الأخير لا يمتلك لمحاربة داعش، ومن خلفه إيران، إلا المقاربة الأمنية التي ستكون استنساخاً غبياً لما قام به بشار الأسد في سورية مع إضفاء صبغة مذهبية أوضح، بخاصة بعدما أصدرت أهم المرجعيات الشيعية الفتاوى التي تطالب الشيعة بالتسلح لمقاتلة داعش ما يكشف البعد المذهبي الذي يتحرك وفقه المالكي. ولا تمتلك الولايات المتحدة إزاء داعش إلا أن تشترط الحوار السياسي وتدعم الاعتدال في الساحة السنية في العراق.

وإذا ما نظرنا إلى الأمر بواقعية فقد يستلزم ذلك إعادة الاعتبار لجيش صدام حسين الذي حلّته ولأنصار حزب البعث الذين لا زالوا يُلاحقون بهدف اجتثاثهم! والصحوات التي حلها نوري المالكي والعشائر والقوى المختلفة في الساحة السنية، وهذا يعني في ما يعنيه تقوية هذه الكيانات على حساب التحالف مع المالكي وبخلاف الاستراتيجية الإيرانية المتبعة في العراق وبخلاف الفهم الأميركي التي اعتقد أن بإمكان أدوات إيران في المنطقة محاربة الإرهاب.

إزاء كل ذلك لم تعد حسابات إيران مخفية. أصبح الأمر بالنسبة إليها يتعلّق بوجودها العقائدي، ويستوجب تدخلاً مباشراً تقوم به بعد تهالك حلفائها وسقوط الهياكل التي اشادتها هنا وهناك، والباب يفتح على مصراعيه أمام حروب تحصل بخلفيات إيديولوجية وتقف الولايات المتحدة إزاءها موقف المُستغل لنتائجها فحسب، وذلك من دون إدخال تعديلات على حقيقة فهمها للأمور. إنما في مقابل كل ذلك يبقى السؤال عن التواطؤ الذي أوصل الأمور إلى هنا، وإلى أي حد يستطيع أوباما التفلّت منه بخاصة بعدما وضع الحوار مع إيران في سلم أولوياته وتحولت مهمة تعزيز وضعية الرئيس روحاني بمواجهة منافسيه في الداخل إلى استراتيجية تطغى على سياساته وتحركاته في المنطقة.