الحملة الدولية ونموذج أوباما ومأزق الاعتدال

د.بهاء أبو كروم (الحياة)

لا شك أن تحالفاً دولياً تقوده الولايات المتحدة الأميركية مصحوباً بشبكة أمان تتلخص بعمليات تواطؤ ومراعاة للمصالح الإيرانية وإعطائها دوراً في المناطق المحاذية لحدودها في العراق ودوراً في تسليح الأكراد وتغاضياً عن بشار الأسد واستمراراً للتفاوض حول الملف النووي، سيوصل إلى نهايات مرضية للأميركيين ولو طالت الأمور بعض الشيء، لكن السؤال المهم والرئيسي يكمن في الأثمان والأكلاف التي تدفعها المجتمعات العربية في الطريق إلى ذلك والمشهد الذي سترسو عليه المنطقة بعد إنجاز الحملة.

الواضح حتى الآن أن الولايات المتحدة لم تنجز استراتيجية الدخول لكي نعتبر أن عليها أيضاً أن تنجز استراتيجية الخروج ورسم الأهداف الواضحة التي لا تزال تفتقر إلى الإطار السياسي الناظم، ونكاد نقول إن النقص في هذه المواجهة الضخمة لا يقتصر فقط على الإطارين السياسي والعسكري إنما أيضاً على البعد الثقافي المتداخل إلى حدود بعيدة مع هذه الأمور.

ومن الواضح أيضاً أن الحملة الدولية بقيادة الولايات المتحدة على «داعش» لن تكون إلا على شاكـــلة الأداء الـــذي اعتمده باراك أوباما طوال ولايتيـــه الاثنـــتين على صعيد السياسات الخارجية. سيــــاســـات مبنية على الـتردد وقصر النظر ومعايير لا تـــراعي المـصالح البعيدة المدى للولايات المتحدة.

فحاجة الرئيس أوباما لترميم الواقع الدولي وبناء تحالف خارج إطار الأمم المتحدة كانت هي الدافع الرئيسي وراء الحملة الجديدة على الإرهاب. وحيث أن للولايات المتحدة أسباباً عدة تقف وراء ذلك منها ترميم صورتها وهيبتها ومنها أيضاً تخطي الفيتو الروسي الذي يعمل على ابتزازها وفرض شروطه على قرارات مجلس الأمن فإن محاربة «داعش» أو التطرف بشكل عام تأتي في المرتبة الثانية، أما الأولوية فهي للقول أن الولايات المتحدة أعادت الإمساك بزمام المبادرة بعد افتراق جدول أعمالها عن روسيا عقب أحداث أوكرانيا، روسيا التي أمنت لها جنيف 1 وجنيف 2 واتفاق نزع السلاح الكيماوي من النظام السوري.

وبما أن انخراط الإدارة الأميركية في حرب جديدة لم يعكس تحولاً جوهرياً في العقيدة القتالية للرئيس الحالي بقدر ما يعكس انجراراً قسرياً وراء أحداث لا يمكن تجاهلها فإن المتوقع منها لا يخرج عن كونه إدارة تقليدية للتوازنات يكون حدها الأقصى العودة إلى مرحلة ما قبل «داعش» مع بعض التعديلات الطفيفة. هذا السياق المُبهم للحملة إذا أضيف إليه الرغبة الأميركية الفاضحة في إبقاء نظام الأسد سيؤول من دون أدنى شك إلى ثلاثة أمور.

أولاً، ارتفاع حدة التطرف وسطوة المتطرفين في سورية والعراق وفي ظل غياب مظلة سياسية واضحة المعالم فذلك سيؤول إلى مزيد من ضعف القوى المعتدلة التي تراهن عليها لإمساك الأرض،

ثانياً، تمدد حالة التطرف وعدم الاستقرار إلى دول مجاورة في المنطقة وإلى مناطق أخرى من العالم،

وثالثاً، الحاجة إلى قوات برية، من غير دول التحالف، ستدفع إلى بناء تفاهمات مع الدول الإقليمية، تركيا وإيران وإسرائيل، تودي إلى لعب هؤلاء أدواراً جديدة على الصعيد الإقليمي بما يؤول إلى تقاسم النفوذ في المنطقة. فالعنصر البشري الذي ينقص في التحالف الدولي يترك المجال أمام خفايا يمكن أن تلجأ إليها الولايات المتحدة وذلك عبر استرضاء تركيا لتعبئة الفراغ في شمال سورية ولا نغفل عن استرضاء إيران ربما لرد الأخطار عن بغداد أو لتوريط إيران في وحول العراق كاستنساخ لتجربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. مَن يدري ولم لا؟

الأمر لا يزال مبهماً من حيث القدرة على ترسيم الأهداف وتبيان المضمر منها عن المعلن، لكن ما كشفه الخلاف التركي الأميركي حتى الآن يشي بأن حبل الود مع إيران لم ينقطع لا في العراق ولا في سورية، وأن الرهان الأميركي على الرئيس روحاني لا يزال قائماً.

ففي حال نجحت الحملة بالقضاء على «داعش»، حينئذ يتم تسليف إيران موجة ثالثة من الخدمات اللامتناهية في مسلسل التناغم معها من خلال القضاء على أعدائها الحاليين بما يذكّر بالانقضاض على خصومها السابقين حركة طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق.

بحيث يمكن في وقت لاحق أن تقول الديبلوماسية الأميركية للإيرانيين، ها نحن نقضي على أعدائكم المتطرفين ونضمن أمنكم فلستم بحاجة إلى سلاح نووي!

لكن على المستوى العربي، والعرب جزء من التحالف الدولي، فقد أفضى صراعهم مع إيران إلى خلاصات مؤلمة سنحت للنموذج القاعدي ونموذج «داعش» حالياً إلى تبوؤ المشهد، فالعمليات السياسية في العالم العربي لم توقف المد الإيراني على رغم أنها تغلبت عليه بالانتخابات حيناً وبالمبادرات السياسية حيناً آخر. ولبنان واليمن والعراق نماذج لهذا الصراع الذي لم يدع للعملية الديموقراطية مكاناً في النظام السياسي ولم يترك للمعتدلين فرصة لإجراء التسويات التي تحافظ على وحدة الدول.

والمسألة لا تتعلق بالمشاركة السياسية لحلفاء إيران في النظام العربي، إنما هي مسألة استحواذ لا تقف أمام حدود معينة، وبالتالي فإن التوازن الذي لم تنجح العملية السياسية بفرضه يحاول التطرف القيام به من خلال عملية استحواذ مقابلة.

وهنا فإن مأزق الاعتدال يصبح مضاعفاً فعلى الأرض تغيب العملية السياسية في سورية وتتعطل في العراق حتى أن اليمن دخل في حلقة الصراع الدموي بشكله المذهبي الفاقع حيث التطرف يقاتل بعضه بعضاً من خلال عملية أيديولوجية صرفة ليس فيها مكانٌ للاعتدال الذي لا يزال حتى الآن لا يشكل نقيضاً متكافئاً. أما في السماء فطائرات التحالف العمياء تبحث عن متطرفين ذادت هي من تطرفهم وتبحث عن «تواطؤات» تقيها شر النزول على الأرض. هذا هو المشهد الذي يبشر بخروج القوى الإقليمية من دائرة حدودها الجغرافية في شكل مباشر وبرضى التحالف هذه المرة وليس مجلس الأمن.

الرهان المجدي للعرب من مجمل هذه الحملة لا يُفترض أن يلغي برنامج عملهم الخاص أو أولوياتهم الخاصة، إنها مناسبة لفرض الشروط المناسِبة!