التحسّب لروسيا في حدود المسألة الأوروبية!

د.بهاء أبو كروم (الحياة)

في الوقت الذي كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول، خلال حفلة اختتامها، إن دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي قدّمت للعالم روسيا كدولة حديثة وعصرية ومتنوعة، كان الرئيس السابق لجورجيا ميخائيل ساكاشفيلي، بطل ثورة الورد في 2003 والذي أخرجه الروس من أوسيتيا عام 2008، يقول امام عشرات آلاف المتظاهرين في الساحة الرئيسية في كييف: «كونوا حذرين، لا تدعوا بوتين يسرق نصركم».

لقد صحّت توقعات ساكاشفيلي، فبوتين سرق نصرهم وحوّل سقوط حليفه المتهم بالفساد يانوكوفيتش إلى مناسبة يعيد معها تظهير الهواجس الروسية التي بدأت تخبو منذ حسم المواجهة مع جورجيا وبروز الدور الروسي المتزايد دولياً، وليطرح حق بلاده في حماية مصالحها والتدخل في الخارج مثلما فعلت الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق.

وحيث كان العالم منبهراً بالألعاب النارية وفعاليات حفلتي الافتتاح والاختتام في سوتشي، تسنى للإعلام الغربي تسليط الضوء على تردي مستوى الخدمات التي بناها الروس تحضيراً للألعاب الأولمبية التي بلغت تكاليفها أكثر من 51 بليون دولار. وذهب بعض الخبراء إلى التحدث عن حقائق مخيفة تعكس البنية التحتية الحقيقية للاقتصاد الروسي.

لقد وظفت إدارة بوتين هذه المناسبة لكي تساهم في تعزيز الروح القومية في روسيا، وهو ما استكملته مباشرة بالإجراءات العسكرية تجاه أوكرانيا والعمل لضم القرم.

تعاطي بوتين مع الأزمة الأوكرانية رفع رصيده الشعبي داخل روسيا المحكومة بالوعي الإمبراطوري، إنما في مقابل ذلك تدهورت صورته في العالم، حيث كانت معاييره المزدوجة فاقعة إلى حد بعيد. فلم يكد يؤيد نظام الحكم الجديد في مصر الذي أطاح الرئيس المنتخب محمد مرسي ويذهب إلى حد تأييد ترشح عبدالفتاح السيسي لانتخابات رئاسية، بعد إبرام صفقات أسلحة في موسكو، حتى وافته الأحداث في أوكرانيا، فظهر موقف معاكس ينكر على الأوكرانيين حقهم في التغيير.

لقد أصيبت الإدارة الروسية بخيبة نتيجة فقدان المبادرة في أوكرانيا التي حسم شعبها صراعاً يتعلّق بالوجهة العامة للدولة، شأنها في ذلك شأن شعوب أوروبا الشرقية التي ترجمت انجذابها نحو أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والأمر هنا يتعلق بالمصلحة الوطنية الأوكرانية وبالهوية السياسية التي يختارها الشعب الأوكراني، وبالتوازي مع ذلك، بإمكان أن تهضم روسيا تحولات جذرية في محيطها الملاصق والمتداخل مع أوروبا، بعدما تعاطت بحدة لافتة مع تحولات بعيدة عنها بذريعة حماية الجوار الروسي من تحريك البيئة الإسلامية تارةً والنزعات الإنفصالية تارة أخرى.

فالمعطى الجديد يتعلق بفشل نظرية إشغال الغرب في الصراعات الدولية البعيدة عن روسيا، كضامن لعدم اقتراب الضغوط من حدودها.

واليوم تقف روسيا أمام مفترق طرق رئيسي، حيث يحدد أداؤها المتعلق بالأزمة الأوكرانية ما إذا كانت هناك تداعيات على دول الجوار أو حتى على الداخل، وقد لا تظهر هذه التداعيات خلال وقت قصير. فالتساهل مع تحولات أوكرانيا يشجع انبعاث ربيع الجمهوريات المحاذية فيما المواجهة التقليدية معها تتطلب غطرسة تعيد روسيا إلى مربّع العزلة، في وقت تزداد حاجة الاقتصاد الروسي الى مزيد من الانفتاح على أوروبا والولايات المتحدة، والمؤسسات الاستشارية والمالية الدولية. فعلى رغم ارتفاع أسعار النفط المُصدّر إلى الخارج فإن التنوع في مصادر الدخل الوطني يتراجع أمام ارتكاز الاقتصاد في شكل أكبر على الموارد المستخرجة.

أخذت الديبلوماسية الروسية تتحرك وفقاً لمنظومة الهواجس التاريخية التي أحاطت بالاتحاد السوفياتي سابقاً وجرّته إلى مواجهة اقتصادية خسرها في نهاية الأمر، على رغم أن هناك بعض النفحات البراغماتية التي تعطي انطباعاً بأن المصالح الاقتصادية هي ما يحظى بالأولوية في سياسات روسيا.

بمناسبة مرور مئة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى اعتبر زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، أن ليست هناك خيارات لروسيا سوى في الشراكة مع أوروبا: «فالشعب الروسي يدرك أن المستقبل الوحيد بالنسبة إلى روسيا هو أن تصبح جزءاً من أوروبا، وأن الطريقة الوحيدة التي تمكّنها من ذلك هي طريق الديموقراطية».

ويعتقد القدامى الروس أن في الولايات المتحدة طبقة من المحافظين تريد العبث بالداخل الروسي تحت مسميات الديموقراطية. مواجهة الروس لهذا المنحى اكتسبت طابعاً عقائدياً مع لينين الذي استحضر تراث ماركس ونظريته في الاقتصاد، فأحكم بلده القبضة على نصف الكرة الأرضية لعقود من الزمن. بوتين بدوره استحضر النزعة القومية بطبعتها المركزية، وهي النزعة التي تتماشى مع الإقتصاد المُوجَّه الذي يعتمد على الثروات الطبيعية ويغفل الترابط المُلزم بين سياقي التنمية الإقتصادية والإصلاحات السياسية والحريات التي تجعل اقتصاد السوق مرناً وقادراً على التأقلم مع الأزمات الناشئة.

وسيعيد تحريك روسيا آلتها العسكرية في أوروبا، الغرب والولايات المتحدة إلى الوضعية التي سبقت سقوط الاتحاد السوفياتي. فالتحسب الأوروبي من روسيا أخذ اتجاهاً جديداً خصوصاً أنه لامس عجز النظام الدولي عن التحرك. فمجلس الأمن لم يعد المكان الذي تحل فيه الأزمات، إذ بعد سورية ها هو الفيتو الروسي يعطل إطار الحل الدولي في أوكرانيا.

ولربما كشفت الأزمة الأوكرانية نزعة بوتين الفاقعة إلى إعادة إحياء الحلم الإمبراطوري لروسيا، لكنها في الوقت ذاته كشفت ورطته مع حركات التغيير في العالم. ففي السابق كان العالم بحاجة إلى تعزيز دور روسيا من أجل تحقيق التوازن في العلاقات الدولية، أما اليوم فهو بحاجة إلى تراجع الدور الروسي من أجل الحفاظ على المعايير في العلاقات الدولية!