التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط..

صلاح تقي الدين

السنّة في لبنان ليسوا “دواعش” وليس كل الشيعة اللبنانيين من أتباع ولي الفقيه. ليس كل المسيحيين في لبنان “صليبيين” ولا الدروز خوارج ينبغي ذبحهم أو اضطهادهم. ولا حرق “الرايات” عمل يستهدف المسلمين أو أنه موجه إلى مذهب بعينه، ولا يكون الرد على هذا العمل الأرعن بكتابة الشعارات على جدران الكنائس أو حرق “الصلبان” في الشوارع.

لكن الحاصل هو أن هناك بعض من يسعى إلى ترسيخ تلك الصورة وتحويلها من وهم إلى حقيقة خدمة لأهداف سياسية ذاتية خاصة، غير آبه بمعنى التسوية التي يقوم عليها لبنان أساساً، والتي تشمل كل مكونات اجتماعه، وهذه لو لم تكن في موقع الوسط، فكرياً ودينياً وعقائدياً وسياسياً، ما كانت قادرة على أن تكون نواة هذه الثمرة التسووية التي اسمها .. لبنان.

يريد ذلك البعض أن يقول للبنانيين اليوم أن تاريخهم الممتد على مدى ألف سنة وأكثر، لم يكن سوى وهم عابر، وأن الباقي الحقيقي، هو أنهم قبائل وعشائر وفصائل وأجناس متناحرة أبد الدهر، ولم تقو الصدفة الجغرافية على جعلهم أمة كيانية وسياسية .. يريد ذلك البعض أن يذهب في خبثه إلى أبعد من ذلك، إلى القول بأن السنّة كلهم “دواعش”، وأن النص الاسلامي هو الخزينة الفكرية التي يغرف منها التكفيريون الذبّاحون الهمجيون كل عدّتهم، وأن الشيعة، كل الشيعة، هم “روافض” على هامش التاريخ الاسلامي، وهم قهّارون بالفطرة، وكيديون بالممارسة، و”موتيون” بكّاؤون بطبعهم، وأنهم في اللحظة التي “تنفّسوا” فيها، هرّبوا كل من حولهم. ومع ذلك، فإن النص الاسلامي في عرف ذلك البعض، هو المسؤول، وأن الدروز أيضاً هم في العقيدة خارج النص الاسلامي (المرذول ذاته)، وفي الوقت نفسه خارج النسيج العربي العام، وهم لا يختلفون عن غيرهم في هذا الشرق المنحوس (الايزيديين) .. ويريد ذلك البعض الخبيث أن يقول فوق ذلك، أن المسيحيين صليبيون بالفطرة، وغربيون بالممارسة السياسية وأعداء مستشرون لشعوب العرب ولو أمكنهم لصنعوا إسرائيل ثانية وارتاحوا.

يريد ذلك البعض أن يقول أن خبثه هو ذكاء، وأن شياطينه هم ملائكة، في حين أن مشاريعه التفتيتية المقيتة المتأتية من تراثه وحده، لا يمكن أن تسري إلا بسريان الفتنة والشرذمة والتفتيت وتشويه الحقائق، وإلغاء الكيانات السياسية الاجتماعية القائمة، وتخريب بنيانها وزعزعة أركانها، متناسياً، أو غافلاً، على أن التاريخ لا يكتبه الأقوياء فقط، بل أيضاً المدوّنون والباقون، وذلك التاريخ يفيد حكماً أن اللبنانيين عاشوا مع بعضهم البعض فعلاً وقولاً وعملاً وبسلام على مدى مئات السنين، وأمكنهم في اللحظة المناسبة إعلان قيام دولة واحدة تلمّهم جميعاً .. ولو كانوا غير ما هم عليه، ما استطاعت شياطين الأرض وملائكتها من ضمّهم في دولة واحدة.

المخزي والمفجع والمؤلم هو أن بين اللبنانيين من هو على شاكلة الاستئصاليين والتكفيريين، وهؤلاء هم من كل الأجناس والأطياف والطوائف، لكنهم كانوا ولا يزالون وسيبقون، أقلية منبوذة لا تقدّم ولا تؤخر سوى أنها تبخّ السم وتأكله.

والمخزي والمفجع والمؤلم هو أن بعض أهل السياسة في لبنان لايتورّع عن مصادقة الأفاعي والذئاب من أجل تحقيق مراميه وطموحاته .. والأفاعي والذئاب لا تنتج إلا الخراب والدمار والموت.. بئس ذلك البعض.