حلـم الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط

بسام الحلبي

في سنتي 1975/1976 شرفني أمير الشهداء وأضاف إلى مهامي، كعضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الإشتراكي، مهمة وكيل داخلية المتن، وهو نوع من الحاكم الإداري يهتم بشؤون المواطنين على كافة الأصعدة ويمثل رئيس الحزب ويرتبط به مباشرة، كون أجهزة الدولة الأمنية والإدارية قد تفككت ولم يعد لها وجود، وكانت توجيهاته وإرشاداته قبل المباشرة بالمهمة تقضي بالتعاون مع المسؤولين في القرى وحسن التعامل مع المسحيين، خاصة لإدخال الطمأنينة إلى قلوبهم والتعاون معهم لما فيه خير هذه القرى، وإسناد مهام الى من يرغب منهم بالتعاون معنا.

وقد لفتني المعلم، بشكل خاص، إلى وجوب التعاون مع الدكتور نجيب أبو حيدر، وزير التربية الشهير في عهد الرئيس سليمان فرنجية، ورئيس بلدية حمانا لاحقاً، الذي كان من المؤيدين للحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وتحديداً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتربطه بقائدها الدكتور جورج حبش علاقة حميمة تعود إلى ايام كلية الطب في الجامعة الأميركية .

في أحد اللقاءآت مع الدكتور أبو حيدر في منزله، كان معه أحد الأشخاص اللافتين بحضورهم ومظهرهم وعرّفني عليه بإسم “المقدم الهيثم الأيوبي” ولم يكن الإسم غريبا ً عني، فقد ذكره محمد حسنين هيكل في كتابه عن “أزمة السويس سنة 1956 ” بأنّه من الفريق الذي نفّذ، مع عبد الحميد السراج، عملية نسف خطوط النفط العائدة لشركة نفط العراق البريطانية العابرة للأراضي السورية وصولاً الى طرابلس، تضامناً مع مصر والرئيس عبد الناصر في مواجهة العدوان الثلاثي. وقد كان مع رفاقه من الضباط في الجيش السوري الذين غادروا سوريا إلى مصر بعد الإنفصال سنة 1961، حيث تفرّغ إلى البحث العسكري الأكاديمي خاصة وهو من خريجي معهد سان سير العسكري في فرنسا، بحيث أصبح في أواخر الستينات من كبار الإستراتيجيين العرب، وأصبح من المقرّبين من الرئيس عبد الناصر .

وفي أحد لقاءآتنا، قال لي أنا أتأسف انه لم تسنح لي فرصـة التعرّف على كمال بك، وأتمنى أن أتمكن من مقابلته، وفي ذلك الحين كان لي شبه لقاء يومي مع المعلّم لإطلاعه على شؤون المنطقة التي أمثل رئيس الحزب فيها كوكيل للداخلية، فأخبرت المعلّم عن رغبة المقدّم الأيوبي، وقال لي لقد سمعت به ولا مانع لدي أجلبه في أي يوم تشاء.

وحضرنا إلى اللقاء مع المعلّم، وأستقبلنا في مقر القيادة، في مدينة عاليه وكان يجلس إلى مائدة طعام تستعمل كطاولة إجتماعات، أمامه حفنة من عشبة القمح في صحن صغير، وبعد التعارف جلس الإثنان يتناقشان في التاريخ والعروبة وعبد الناصر والسياسة ولبنان والحرب اللبنانية، وكنت أنا أصغي إلى درس سياسي يبدأ في لبنان وينتهي في العالم، وكان دوري في مثل هذا الحديث الإصغاء ونقل نظري بين الإثنين مثل من ينظر إلى الكرة في مبارزة كرة المضرب فيتنقل نظري بين شخصيتين، شخصية ملائكية مذهلة يعجز المرء على وصفها، وشخصية ثانية قمـة في الثقافة والتحليل .

ختاماً للحوار سأل المقدّم الأيوبي المعلم، قائلاً له، يا بك ماذا عن نهاية الحرب في لبنان، وكنا في حينه في منتصف شهر شباط 1976 أو أواخره. فأجابه المعلّم: إنّ الحرب على مشارف الإنتهاء فنحن في عيون السيمان ولن تستطيع القوى الإنعزالية تسجيل أي إنتصار على القوات المشتركة، وفور الإنتصار سنثبت أننا لا نحارب الموارنة وأننا نصرّ على بقاء رئاسة الجمهورية بين صفوفها، وسننتخب ريمون إده رئيساً كونه هو الشخصية الوحيدة القادرة على إجراء الإصلاحات التي يحتاجها النظام، والذي لن يستطيع أحد من الإنعزاليين الطعن بحرصه على الطائفة المارونية، وهو الشخص المتشرّب للدمقراطية بمفهومها العلمي، وتابع قائلاً وفي حال تعذّر إنتخاب ريمون إده سيكون وجدي الملاط هو الرئيس البديل، وأوضح أنه لا طموح له بأي مركز سياسي وأنه فور إنتهاء الحرب، سيغادر إلى الهند للقاء معلّمه وتمضية فترة زمنية قد تطول متفرّغاً للرياضة الروحية والتأمل .

وهنا إبتسم المقدّم الأيوبي وقال له “كمال بك إنتم لن تربحوا الحرب، لأنّ أول من سينقلب عليكم هو حزب البعث وحكامه في دمشق لأنكم لن تعطوا النظام السوري ما يرغبه في لبنان، إضافة إلى أنه لن يسمح لك بإقامة دمقراطية في قلب المنطقة، فالمطلوب أن تبقى قبائل وعشائر ومزارع. وانتهت الزيارة عند هذا الحد.

وفي طريق عودتنا، قال لي المقدّم الأيوبي، البعث وحافظ الأسد يخدعان كمال بك، وهو لن يربح الحرب…

وجرى ما جرى وإجتاحت إسرائيل لبنان وغادر الهيثم الأيوبي لبنان إلى فرنسا، وإستمر تواصلنا بالمراسلة. إلى أن زرته بعد مرور خمس وثلاثين سنة في باريس وكان هذا العملاق قد أصبح هيكلاً عظمياً لإصابته بالسرطان، وأنا بلغت ما بلغت من العمر وبدمعتين ذرفها كل منا على أيام ٍ عشناها في ظل عملاقين قلّ أن يعرف العرب مثلهما، جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط، سألني الهيثم هل ربحتم الحرب يا بسام.

(الأنباء)