الى اللاعبين بالنار: اتعظوا من انتخابات 1957

صلاح تقي الدين (الأنباء)

المشكلة عند العرب عموماً، ولدى اللاعبين السياسيين الطارئين الجدد تحديداً، أنهم لا يقرأون ولا يتعظون من التجارب السياسية العديدة التي مرّت على بلدانهم وخصوصاً عندنا في لبنان.

عند كل مفصل انتخابي، يحاول هؤلاء المتعمشقون السياسيون أن يستعيدوا محاولات محاصرة المختارة على أمل كسر شوكتها وتحجيم دورها الوطني الراسخ، غافلين أن من سبقهم في هذا السعي، كثيرون منهم انتقلوا إلى جوار ربهم وبعضهم لا يزال حيا يرزق، أن هذه المحاولات لم تنجح سابقاً ولن تنجح حالياً ولا في المستقبل، ولا نقول هذا الكلام من منطق المغالاة أو التحبّب، بل لأن التاريخ علّمنا هذا الدرس، ونحن قرأناه جيداً.

يطيب لرئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب وليد جنبلاط أن يذكّر هؤلاء في مناسبة أو من دونها، أن سبعة نواب في العام 1952، وضعوا حداً لعهد الفساد والاستقواء الذي كانت تمارسه حاشية الرئيس الراحل بشارة الخوري، فأسقطوه من خلال مهرجان خطابي لا أكثر ولا أقل، وترسّخت في التاريخ وأذهان الناس كلمة المعلم الشهيد كمال جنبلاط “قلنا لهذا كن فكان، وقلنا لذاك زلّ فزال”.

ومن المعروف أن المعلم الراحل كان “كتلوياً” في السياسة ومن محبّذي وصول الرئيس الراحل أميل أده إلى السلطة كأول رئيس لجمهورية لبنان ما بعد الانتداب، فلم يستسغ “الدستوريون” من أنصار الشيخ بشارة هذا الموقف وظلّوا يختزنونه في مكنونات صدورهم ويحاولون بواسطة أزلامهم، تأليب أبناء الجبل ضد جنبلاط حتى وصل الأمر بـ “السلطان سليم” إلى تنظيبم أول انتخابات نيابية في عهد شقيقه في العام 1947، والتي حفلت بعمليات تزوير فاضحة ومعيبة أوصلت عدداً كبيراً من النواب المؤيدين للشيخ بشارة لمنع أي معارضة فاعلة في وجهه، وبدأوا العمل على تمديد ولايته الرئاسية.

ومع توقيع قرار إعدام رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة في تموز من العام 1949، فاض الكأس مع معارضي الخوري، فكتب كمال جنبلاط افتتاحيته الشهيرة في الأنباء “جاء بهم الأجنبي فليرحل بهم الشعب”، وذهب أتباع “السلطان سليم” بعيداً في رشوة مناوئي جنبلاط أينما كانوا وحثّهم على الوقوف ضده، وتشجيع الزعيم الراحل الأمير مجيد أرسلان على معارضة جنبلاط في كل شاردة وواردة تخصّ الدروز، حتى أضحى الثابت الوحيد في كل وزارات رئيس الاستقلال وفتحت أمامه أبواب الخدمات على مصراعيها، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، فسقط السلطان سليم ومعه عهد شقيقه بعد عامين ونيف على التمديد المشؤوم من خلال المهرجان الخطابي التاريخي في بلدة دير القمر الشوفية، وظلّت المختارة وصمدت، وظلّ المعلم الراحل معها رقماً صعباً في الحياة السياسية اللبنانية.
غير أن “فتى العروبة الأغر” الرئيس الراحل كميل شمعون الذي كان شريكاً للمعلم في إسقاط عهد الشيخ بشارة، لم يتعظ مما حلّ بسلفه، فما كاد يصل إلى قصر الرئاسة في القنطاري حتى بدأ بالعمل الحثيث ضد كمال جنبلاط الذي بدأت معالم نفوذه وزعامته في منطقة الشوف، تشكّل الهاجس الكبير لشمعون الذي راح يخطط لكيفية تحجيم كمال جنبلاط وتقليص دوره ودور المختارة في صنع تاريخ الجبل ولبنان.

خلال ذلك العهد، ومن خلال تلك الألاعيب الانتخابية، تمت صياغة ما عرف بقانون انتخابات 1957 والذي بنتيجته نجحت محاولات شمعون في منع وصول جنبلاط إلى الندوة النيابية، لكن حضور المختارة والمعلم شخصيا زاد بطريقة مفاجئة لشمعون والعهد، وقامت ثورة العام 1958 بعدها بفترة قصيرة وأدت إلى قطع كل أحلام شمعون بالتمديد، فسقط ولو أنه أكمل ولايته إلى آخر يوم، بل آخر ساعة منها، لكن الرئيس اللواء فؤاد شهاب أدرك فعلياً ما جنته يدا شمعون، فأعاد المجلس النيابي في عهده صياغة ما عرف بقانون “الستين” الذي لازم يوميات اللبنانيين الانتخابية حتى ما بعد اتفاق “الطائف”.

هدأت المحاولات لغياب الانتخابات النيابية في فترة الحرب التي خرج منها وليد جنبلاط، وريث المعلم الشهيد، منتصراً، لكن دون أن تكون القلوب والعقول قد صفيت ، فكرّت سبحة المحاولات في “القوطبة” على المختارة من خلال صياغة قوانين انتخابية كان الهدف الأول والأخير منها “ضبضبة” نفوذ المختارة وتحديده، فكان قانون 2000، ثم قانون 2008، ثم اليوم في هذا القانون الهجين المسخ الذي مهما كثرت تسمياته، إلا أن اللازمة الوحيدة فيه، لا بل النغمة الوحيدة هي محاولة تقليص دور وحجم الكتلة النيابية التي سيحصل عليها “ابن” جنبلاط في المجلس النيابي الجديد.

صحيح أن واضعي القانون العجيب فوجئوا بمفاعيله غير المضبوطة نتيجة ما أسموه الصوت التفضيلي، وحاولوا مراراً وتكراراً حشر رئيس المجلس النيابي نبيه بري في الزاوية بحجة المهل الدستورية، ودفعه إلى القبول بعقد جلسة لتعديل بعض مواد القانون، إلا أنهم اصطدموا بحائط أفعالهم وستجرى الانتخابات وفق ما اشتهوا.

لكن … رغم أن وليد جنبلاط عارض هذا القانون منذ طرحه للمناقشة، ورغم أن معارضته لم تفلح في ثنيهم قبل إقراره عن المضي به، إلا أن جنبلاط سجّل اعتراضه ومشى، وها هو اليوم نجله الشاب تيمور، سيخوض هذه الانتخابات بكل عزم وتصميم وقدرة على الفوز المنشود، وأكان ذلك “بنائب بالزايد أو بالناقص، لا همّ” المهمّ أن يمر الاستحقاق وبعدها لكل حادث حديث.

محاولات الحصار واضحة، ومحاولات تقليص النفوذ والدور والحجم جلية في كل نقطة وفاصلة من هذا القانون، لكن حذار من اللاعبين بالنار أن يمضوا بعد الانتخابات في غيهم، ويحاولوا بغض النظر عن النتيجة المتوقعة من الانتخابات، أن يظنوا أن بإمكانهم فرض هيمنتهم وقرارهم على المختارة، أكان ذلك عبر تمرير الوعود بعودة الانقسام “اليزبكي – الجنبلاطي” وتوفير كل وسائط الدعم والخدمات إلى مناوئي جنبلاط في السلطة، أو اللعب على “الغريزة” بإثارة الدروز بوجه بعضهم البعض، وليتذكروا أن كل محاولاتهم السابقة كانت بائسة ولم تنتج سوى الوبال على لبنان الوطن، وليتذكروا أيضاً أن الأمير مجيد أرسلان استدعى وليد جنبلاط قبيل وفاته وبحضور نجليه الراحل فيصل وطلال، ليطلب منه قيادة الموحدين الدروز ويضع مصيرهم بين أيديه.

نجح وليد جنبلاط في تنفيذ وصية الأمير مجيد، ونجح في إعادة بعض ما فقدوه من دور تأسيسي في الوطن، وإذا كانت المناصب التي تزعم فئة ضالة من الدروز أنها “سحبت” من أبناء الطائفة، فالجميع يعلم أنه أثناء سلطة الوصاية التي يترحمون عليها أو لا يزالون يحلمون بعودتها، هي التي فرضت على جنبلاط هذا الواقع ولم تكن أبداً نتيجة قبوله أو تقاعسه عن المطالبة بها.

حذار اللعب بالنار، فهي تحرق الأصابع، وعلى الجميع تحسس أصابعهم.

(الأنباء)