الدستور بين النص والممارسة

فريد محمود

تختلف الانظمة السياسية في دول العالم من دولة الى اخرى، كما ان العديد من الدول اختلفت انظمتها السياسية من وقت الى آخر عبر الزمن. ففي الازمان القديمة سادت الانظمة الملكية المطلقة، فكان الملك يجسد الدولة في شخصه، وليس أدّل على ذلك من القول الشهير لملك فرنسا لويس الرابع عشر (الدولة هي أنا).

مع تطور الفكر البشري (والانسان محكوم بهذه السنّة شاء أم أبى) بدأ مفهوم الملكية المطلقة يضعف شيئاً فشيئاً وبدأ الملوك يتنازلون مضطرين عن بعض الصلاحيات، وقد تكون نقطة التحول الاساسية هي وثيقة الماغنا كارتا او الميثاق الاعظم، تلك الوثيقة التي أُلزم ملك بريطانيا، في العام 1215، على التوقيع عليها لصالح اللوردات، فعرف العالم بعدها مفهوم الملكية الدستورية.

من رحم النظام الملكي ولد النظام الرئاسي وهو نظام حكم تكون فيه السلطة التنفيذية مستقلة عن السلطة التشريعية ولا يمكن أن تقوم بحلها. انما في هذا النظام الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب يخضع للدستور والقوانين ولا يجوز له التفلُّت من أحكامهما.

بعدها وصلنا الى ما يعرف بالنظام الرئاسي- البرلماني، هو نظام خليط بين النظامين الرئاسي والبرلماني، يكون فيه رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء شريكان في تسيير شؤون الدولة. هنا رئيس الوزراء مسؤول أمام البرلمان ويستطيع الاخير محاسبته وعزله إذا أراد.

ايضاً عرف العالم النظام المجلسي وهو نظام يقوم على فكرة وحدة السلطة وتركيزها في الممثل الحقيقي للشعب وهو البرلمان، والحكومة تابعة للسلطة التشريعية، وتمارس المسائل التنفيذية والادارية بتوجيه وأوامر ملزمة للحكومة، من قبل البرلمان.

أما النظام البرلماني، وهو نظام الحكم في لبنان، هو نوع من الأنظمة السياسية ينقسم فيه الحكم بين هيئتين احدهما البرلمان الذي يتم انتخاب أعضاءه من قبل الشعب مباشرةً، ومنه تنبثق الهيئة الثانية وهي الحكومة أو مجلس الوزراء، ويجوز في هذا النظام للبرلمان أن يسحب الثقة من الحكومة، كما يجوز للحكومة حل البرلمان، فهو نظام يعتمد:

اولاً: على التعاون والتوازن بين السلطات.

وثانياً: على مسؤولية الحكومة أمام البرلمان.

بالطبع جميع السلطات في هذا النظام خاضعة اولاً للدستور، وثانياً للقوانين المرعية الإجراء، مروراً بالاتفاقيات الدولية، ولا يجوز لأي من السلطات في هذا النظام الخروج على النصوص القانونية.

لا داعي للتذكير أن النظام السياسي في لبنان هو نظام برلماني، والشعب، قانوناً، يمارس السلطات من خلال ممثلين له يعتبرهم الدستور نواب الأمة، يشكلون مجتمعين مجلس النواب اللبناني، والذي منه تنبثق السلطات الأخرى من رئاسة جمهورية ورئاسة حكومة وحكومة.

وللمجلس النيابي في الانظمة البرلمانية أهمية قصوى تفوق أية سلطة دستورية أخرى، فهو محور الدائرة ونقطة ارتكاز النظام السياسي برمته.

نصت الفقرة (د) من مقدمة الدستور اللبناني على ما يلي:

د – الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية.

أما المادة 25 نصت على ما يلي: ” إذا حلّ مجلس النواب وجب ان يشتمل قرار الحل على دعوة لإجراء انتخابات جديدة وهذه الانتخابات تجري وفقا للمادة 24 وتنتهي في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر.”

مهلة الاشهر الثلاثة التي نصت عليها المادة 25 هي مهلة تتجانس وتتساوى مع المهلة الزمنية الفاصلة بين العقدين التشريعيين، بالتالي المشرع الدستوري لم يترك مجالاً لتعطيل المجلس النيابي في جميع الحالات لأكثر من المهلة المذكورة.

مع العلم أن حالتي حل مجلس النواب بمرسوم محصورة ومحددة جداً في المادتين 65 و77 ولا يجوز القياس على هاتين الحالتين مطلقاً.

لا بل ذهب المشرَع الدستوري في التحوط إلى أبعد من ذلك، ففي المادة 41 من الدستور نص على وجوب الشروع في انتخاب نائب بديل اذا شغر مقعد نيابي خلال شهرين من هذا الشغور.

من ثم نص في المادة 40 على عدم جواز ملاحقة أي عضو من أعضاء المجلس أو القاء القبض عليه أثناء دور الانعقاد. الواضح من هذه المادة أن الحصانة المقررة تطبق أثناء دور الانعقاد للمجلس أي خلال الدور التشريعي، وذلك لما لدور النائب، وان كان نائباً واحداً، من أهمية خلال الفترة المذكورة.

استكمل الحرص على أهمية دور النائب في المادة 97 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنبهت لمسألة ملاحقة النائب بالجرم المشهود أو خارج دورة انعقاد مجلس النواب، فألزم وزير العدل إعلام المجلس بالأمر في اول جلسة يعقدها وتركت للمجلس الحق بان يقرر وقف الملاحقة بحق النائب، وإذا كان موقوفاً يخلى سبيله مؤقتاً أثناء دورة الانعقاد إلى ما بعد انتهائها.

بالطبع إن الحصانة المقررة في المادة 40 والإجراءات المعتمدة في المادة 97 ليستا مقررتين لمصلحة شخص النائب، بل مقررتان للدور الملقى على عاتقه كممثل عن الناخبين.

لم يصل إلى علمنا أن المادة 97 سبق أن طبقت في لبنان، إنما نعلم أنها مورست في إيطاليا مثلاً عندما وجهت إحدى التهم الى إحدى أعضاء  البرلمان الإيطالي تدعى سيسيولينا (من أصل مجري) التي أحضرت من السجن أكثر من مرة لحضور جلسات مجلس النواب والمشاركة في التصويت والمناقشات.

فهل يجوز بعد هذه النصوص التشريعية، وهذا التحوط من قبل المشرع للمحافظة على دور مجلس النواب كهيئة، أو حتى تمكين أفراد هذه الهيئة من القيام بدورهم، هل يجوز الكلام عن فراغ تشريعي توضيحاً أو تلميحاً، كما هل يجوز أن يكون مقصوداً بذاته أو وسيلةً للضغط؟

قد نتجاوز هكذا موقف إن صدر عام 1988 أو إن صدر من غير من أقسم على احترام الدستور والقوانين اللبنانية، أما بغير ذلك هو يشكل موقفاً لا يستقيم لا مع القسم ولا المبادئ.

 

المادة 50 من الدستور تضمنت نص يمين الإخلاص للأمة وللدستور والذي على رئيس الجمهورية أن يتلوه أمام البرلمان عندما يقبض رئيس الجمهورية على أزمة الحكم.

“احلف باللّه العظيم أني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه.”

المادة 50 هذه لم تكتف بالنص على احترام الدستور فقط، بل نصت على احترام القوانين بشكل مطلق، وقانون الانتخابات هو أحد القوانين التي يجب احترامها تبعاً لليمين الدستورية التي أقسمها كل رئيس جمهورية فور انتخابه من قبل مجلس النواب، والمجلس النيابي الذي، انتخب فخامة رئيس الجمهورية الحالي، تولى أعضاءه مهامهم النيابية على أساس القانون رقم 25/2008 والذي لا زال هو القانون النافذ، والمتضمن مهلاً قانونية محددة بدقة ومستندة إلى المادة 42 من الدستور.

تنص المادة 44 من القانون رقم 25/2008 على دعوة الهيئات الناخبة.

“تدعى الهيئات الناخبة بمرسوم. وتكون المهلة بين تاريخ نشر هذا المرسوم واجتماع الهيئات الناخبة تسعين يوما على الأقل”

الواضح من النص أنه أتى بصيغة آمرة ولم يترك للسلطة التنفيذية، أو لمعنيين منها بالانتخابات، أي سلطة تقديرية أو استنسابية، فعلى هذه السلطة نشر المرسوم المذكور في المادة قبل تسعين يوماً على الأقل من انتهاء ولاية المجلس النيابي.

المجلس الحالي تنتهي ولايته بتاريخ 20 حزيران من العام الجاري، مهلة التسعون يوماً الفاصلة تنتهي بتاريخ 22 أذار (النص حدد المهلة بالأيام وليس بالأشهر، وقد اعتبر تاريخ 20 حزيران الحد الفاصل لأن يوم الأحد السابق لانتهاء المهلة يصادف 18 حزيران مما يعني أن مهلة التسعين يوماً الفاصلة تبدأ يوم 20 أذار)

إن عدم توقيع المرسوم في المهلة المذكورة يعني مخالفة قانون نافذ، بالتالي مخالفة قسم اليمين الدستورية التي أقسمها فخامته، عندما قبض على أزمة الحكم، أمام المجلس النيابي وحشد غفير من الحضور المحلي والعربي والدولي.

ينظِّر البعض لعدم توقيع المرسوم على أنه يستند إلى خطاب القسم الذي تعهد فخامة الرئيس من خلاله بقانون انتخابات نيابية جديد.

لا ينكر أن هذا الوعد ورد في خطاب القسم، إنما يبقى سؤال أساسي، هل النصوص القانونية والدستور، بما فيه نص قسم اليمين، تعلو على تعهد ورد في خطاب القسم أم إن هذا التعهد يعلو ويتقدم على الدستور والقوانين؟

إن هذا الرأي أو هذا القول (حيث لا يرقى إلى رأي) مردود فقهاً وقانوناً كما في علم السياسية، لا بلّ إن عدم توقيع المرسوم المذكور يجعلنا نسأل، هل المسألة مسألة قانون انتخابي جديد أم مسألة حلم يراود مجموعة ما منذ العام 1988 يوم صدر كتاب “ويبقى الجيش هو الحل” للعميد الركن فؤاد عون الذي كانت له مهمة تدوين المشروع السياسي العسكري بإدارة عسكرية، والمطموح إليه في تلك الحقبة، التي شهدت اتصالات ووعود وعهود بين قائد الجيش آنذاك والسوريين عمل على إنضاجها مجموعة من الوسطاء كان أبرزهم الاستاذ فايز القزي والوزير البير منصور.

بالعودة إلى نصوص الدستور وواجبات السلطات الدستورية، لا بأس بالتذكير بالمادة 51 من الدستور التي تتناول واجبات رئيس الجمهورية في إصدار ونشر القوانين حيث تنص بشكل واضح على عدم جواز إدخال أي تعديل عليها أو إعفاء أحد من التقيد بأحكامها من قبل فخامة الرئيس.

كيف لفخامة الرئيس أمام هذا النص الدستوري، الذي لا يجيز تعديل قانون أو إعفاء أحد من التقيد بأحكامه، أن يُقدم على تعطيل قانون ما، لا بل يمنع تطبيقه ويحرم المواطن من حق ممارسة القانون ويمنع عليه واجبه في ممارسة قانون أساسي يكرس حقوق مواطنية تشكل أساس

النظام السياسي اللبناني، أن ممارسة أحكام قانون الانتخابات تعتبر حق دستوري للمواطن كما تشكل واجب وطني؟

سبق القول أن النظام السياسي البرلماني المعتمد في لبنان يقوم على فصل السلطات وتعاونها، والمجلس النيابي في هذا النظام هو السلطة المختصة بالتشريع وهو مجلس النواب، الذي يتخيل لجهات معينة أن بإمكانها وضعه في مهب الريح، ولأن المجلس النيابي هو صاحب الاختصاص التشريعي فإن إقرار قانون انتخابي جديد هو من اختصاص هذا المجلس حصراً. بالتالي إذا لم تحصل العملية الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية لا يمكن أن تجري انتخابات نيابية إلا على القانون النافذ وهو القانون رقم 25/2008، حيث بغياب المجلس النيابي لا يمكن إقرار قانون انتخابي آخر غير القانون النافذ ولو طال الأمر لسنوات وسنوات.

بالطبع سمعنا آراء تنطوي على ضرب القواعد الدستورية والسياسية وتصل في عبثيتها الى ضرب المبادئ السياسية البرلمانية برمتها، فالنائب السابق سليم عون، رأى أن للحكومة أن تضع قانون انتخابات جديد وتُجري الانتخابات على أساسه، وهذا رأي يخالف أبسط القواعد القانونية. رأي جعلنا نسأل عن شرعية القوانين التي وافق عليها النائب المذكور حين كان نائباً عن دائرة زحلة.

إن رأي كالذي ساقه النائب عون قال به آخرون مستندين إلى نظرية المراسيم التشريعية، لكن ما غاب، أو انهم غَيَّبوا هم عن بالهم أن هذه المراسيم وإن مورست كعرف دستوري، إلا أن الحكومة تحتاج إلى تفويض واضح وصريح من المجلس النيابي يحدد الموضوع الذي يجب أن يُعالج كما يحدد المهلة الزمنية التي على الحكومة إصدار المرسوم خلالها كي تتمكن من إصدار هكذا مراسيم، ويبقى المرسوم التشريعي هذا غير مستقر إلى أن يقره مجلس النواب. هذه الآراء ليست سوى هرطقة لا تغني ولا تسمن.

سنداً لنص المادة 55 من الدستور التي سمحت بحل مجلس النواب في حالات محددة، وقد سبق تناولها، أن المهلة القصوى التي يجب أن يبقى خلالها المجلس النيابي منحلاً وهي ثلاثة أشهر، مع بقاء هيئة مكتب المجلس في ممارسة مهامها، سنداً لهذه المادة، يذهب رأي في الفقه الدستوري للقول بأنه في ما لو وقع ما يسمى فراغ تشريعي لا يجب أن يستمر لأكثر من هذه الفترة، وعليه بعد مرور ثلاثة أشهر من تاريخ 20 حزيران يعود المجلس النيابي إلى ممارسة عمله بشكل اعتيادي وطبيعي، أي لا يمكن أن يغيب المجلس عن عمله إلى ما بعد 20 أيلول كحد أقصى.

بالطبع هذا الرأي سوف يواجه بآراء أخرى لا تتوافق معه بل تعارضه وسندخل بأزمة سياسية لا يمكن توقع نتائجها.

ولا بدّ من أن نلفت إلى وجود رأي يعتبر أن بغياب المجلس النيابي كسلطة تشريعية لا بل كسلطة تعتبر أم السلطات، تنبثق عنها السلطات الأخرى سيفقد رئيس الجمهورية، المنتخب من قبل البرلمان، سلطته الدستورية كما الحكومة التي تمارس صلاحياتها نتيجة الثقة الممنوحة لها من قبل المجلس النيابي ستفقد شرعية وجودها بالتالي سوف تكون بمثابة المستقيلة.

أما بالنسبة لامكانية تجاوز المهل المحددة في قانون الانتخابات هل يمكن اعتماد الرأي الفقهي القائل بإمكانية تجاوز هذه المهل لإجراء انتخابات خارجها، نظراً للظروف القائمة، وبهدف عدم تعطيل المؤسسات وإعمال النصوص لا تعطيلها؟ هو رأي عاقل يهدف الى المحافظة على الاستقرار وعدم تعطيل المؤسسات وادخال البلد في نفق لا يعلم غير الله سبحانه تعالى كيفية الخروج منه، إنما أيضاً سيلقى معارضة ونقاش حاد.

أخيراً يمكن القول أن كأس التمديد المرّ للمجلس النيابي لا بدّ من تجرعه، تقني أو سياسي لفترة زمنية طويلة أو قصيرة، فلا بدّ من دفع مضرة كبيرة بمضرة أصغر منها، والضرورات تبيح المحظورات، تلك المحظورات التي أوقعنا بها بعض الموشوشين على أذن أصحاب الشأن.

من ناحية ثانية نرى أنه لا بدّ من إعادة النظر ببعض النصوص الدستورية لجهة تقيد صلاحيات المراجع الدستورية، من وزراء وغير وزراء، لجهة أهمية الالتزام بالمهل المنصوص عليها، لم يعد من الجائز أن تترك شؤون تسيير أمور العباد والبلاد لسلطة شخص بعينه. بل أصبح من الواجب اعتبار أن أي إجراء لا يصدر بمرسوم أو بقرار خلال المهل الملزمة المحددة قانوناً، يجب اعتباره نافذاً دون أي إجراء آخر.

اليوم رفض فخامة الرئيس توقيع مرسوم، غداً قد يمتنع الوزير أو رئيس الحكومة عن التوقيع، وهذه الحالات حصلت سابقاً لأكثر من مرة، فهل يجب أن يبقى هذا الواقع قائماً مستمراً يؤرق مستقبل المواطنين من الآن إلى أبد الآبدين.

(الأنباء)