انحسار الأقوياء

سمير عطالله (النهار)

أخشى أن مصطلحاً آخر من تلك المصطلحات التي طغت على حياتنا، سوف يسقط من التداول: “القوى” الكبرى. لم تعد القوى العسكرية قادرة على حسم شيء، ولم يعد معنى “القوة” واضحاً أو واحداً. قوتان كبريان، ومعهما مجموعة دول عالمية واقليمية، تقاتل في صعوبة تنظيماً حديث الظهور يُعرف باسم داعش. الجيش السوري المعبأ والمدرب، ومعه قوات من “حزب الله”، وضباط ايرانيون، اضطر إلى الاستعانة بالروس لكي يرد التشكيلات الغامضة الهويات والتدريب، عن اسوار دمشق. لا السلاح الجوي الأميركي وحده حسم حروب العراق ولا السلاح الجوي السوري اوقف المعارضة المسلحة. جميع “القوى” حسب التعريف السابق، لم تعد ذات فاعلية.
في حالات كثيرة اصبح الضعيف هو الذي ينتصر. في دراسة لهارفارد، أنه بين 1800 و 1849 كانت نسبة انتصار الفريق الأضعف 12%، ولكن في الحروب التي جرت بين 1950 و 1998 كانت النسبة 55%، وسبب ذلك مجموعة من العناصر السياسية والعسكرية وتعدد أنواع القتال، أولها مقدرة الفريق الأضعف على انزال الخسائر بغريمه بكلفة أقل، ومفاجآت غير مكلفة.
كانت افغانستان المختبر الأهم في هذا المجال. يقول جنرال في المارينز إن 80% من الإصابات في وحدته كان سببها التفجيرات. وصرفت الولايات المتحدة 17 مليار دولار لشراء أجهزة راديو مشوِّشة لتعطيل الأدوات البدائية المستخدمة في التفجير مثل الهواتف المتنقلة أو مفاتيح الأبواب.
تراجعت القوة أيضاً في الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تتمتع باستخدامها لقمع الشعوب. العام 1977 كانت 89 دولة خاضعة لحكم الديكتاتور، العدد الآن 22، واكثر من نصف العالم يعيش في ظل الديموقراطية. ويشمل هذا التغير باقي أشكال القوة من شركات وبنوك وغيرها. لا يوسف بيدس في لبنان الآن ولا ديفيد روكفلر في أميركا. فيما تعاني البنوك العالمية الأزمات والدعاوى القضائية، ويختفي كل اسم مصرفي عن أضواء العالم، يلمع اسم بيل غيتس ووارن بافيت وكارلوس سليم، ليس بسبب حجم ثرواتهم، بل بسبب حجم تبرعاتهم للفقراء. ليس طلباً للنفوذ، كما في الأيام الامبريالية، بل طلباً لسكينة النفس وواجب المشاركة.
يستطيع الفتى المبجل، حاكم كوريا الشمالية، أن يقلق كوريا الجنوبية واليابان، وربما العالم، وأن يعدم عمه بمدفع مضاد للطائرات، لكنه لا يستطيع إقامة زراعة تحمي مليون إنسان من الموت جوعاً. ولا أن يحول دون اعتبار الهاتف المتحرك أهم حلم عند شعبه. لذلك، عندما يسقط، لن يكون ذلك بصاروخ نووي، بل في خروج شعبي إلى “ميدان التحرير”. سوف يشعر الملايين، دفعة واحدة، أن التخلف قد ملأ عروقهم حتى التفجّر، وأن الغطرسة الضاحكة سقوط إنساني.
اصبحت هناك مظاهر اخرى للقوة. منها ما يُعرف بـ”المنظمات غير الحكومية” وأكثرها متهم بالعمل لأميركا، لأنه يساهم في بسط الديموقراطيات. وأصبحت هذه الجماعات محظورة في أماكن كثيرة لأنها تشكل خطراً واضحاً على الأنظمة المستبدة. وهناك نوع آخر من الجمعيات الربيعية في الغرب، يرئس احداها حفيد الواعظ الأميركي الشهير بيلي غراهام، وقد نجحت هذه في تحقيق انفصال جنوب السودان، بعدما اخفقت 50 عاماً من القتال في ذلك.
وكان يقال إن الفاتيكان هو الذي يغذي الانفصاليين المسيحيين، لكن ذلك لم يكن دقيقاً، مع أن الفاتيكان لا يزال إلى اليوم، أحد مراكز القوى العالمية، لكنه كذلك بسبب وقوفه إلى جانب الضعفاء. هكذا ساهم البولوني يوحنا بولس الثاني في دحر الشيوعية، وهكذا يتجاوزه الأرجنتيني فرنسيس، العاكف على تطهير الكنيسة وتنقيتها من مظاهر البطر الزمني وشبق الأباطيل.
يقف فرنسيس “بالقوة” المعطاة له ليدعو إلى فتح أبواب أوروبا أمام اللاجئين. وأين تكمن قوة أنغيلا ميركل؟ ليس في انها تقود المانيا إلى الحرب، ولا في انها وريثة بيسمارك أو وليدة بروسيا، بل في كونها سيدة أحسنت ادارة الازدهار ورفعت راية البرّ: مليون غريب من الف منبع، فتحت لهم الأبواب وكأنها تقول، المانيا للجميع، وليس “المانيا فوق الجميع”.
تلك هي القوّة اليوم. أما القوّة الوحشية التي يمثلها دونالد ترامب وداعش والنازيون الجدد والفوضويون الجدد، فهي القوّة التي تولد المآسي وتفجرها، وليس التي تحلها.
تنازل باراك أوباما لفلاديمير بوتين عن دور القوي الأول. أذهب انت وأدِّبهم. وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية، الضعفاء يشتمون روسيا، لا أميركا. وبوتين يصور بشاربي هتلر، وليس جورج دبليو بوش. والذي يقصف أهدافاً مدنية في سوريا هو السلاح الجوي الروسي الذي يبارك طائراته الكهنة قبل سفرها إلى أرض القتال.
افتقدت روسيا القوة الأخرى، التي اصبحت تحقق الانتصارات: الجامعات الكبرى، والسينما، وتبسيط الطعام، والملبس. كرة القدم صنعت سمعة البرازيل. ومراكز سرفانتس الثقافية عرَّفت اسبانيا على العالم. وغزت المكسيك وكولومبيا البلدان بالمسلسلات والتعاطف مع آلام “ماريا مرسيدس” الشبيهة بآلام فرتر. كره الناس الملك فاروق منذ الانقلاب عليه. وتركت ثورة 23 يوليو له في أذهان الناس صورة المتهتك العابث والناقص وطنياً. لكن المسلسل الذي انتجته MBC عن فاروق قبل سنوات أعاد إليه الكثير من الاعتبار، وأثار حوله الكثير من العطف. وقد ركّز المسلسل على عداء فاروق للإنكليز وكرههم له، كما ركّز على رهانه على انتصار المانيا ودول المحور في الحرب.
لم يعد معروفاً أين (1) تكمن القوة، وكيف تمارس، وما هي تأثيراتها. تكلفت “القاعدة” في ترتيب مجزرة 11 ايلول 2001 نحو 500 الف دولار. أما اميركا فكانت خسائرها المباشرة وكلفة الرد 3,3 تريليون دولار. أي أن اميركا دفعت 7 ملايين دولار لكل دولار دفعه اشباح القتل والانتحار. وفي العام 2011 كبَّد قراصنة الصومال العالم نحو 6,6 مليارات دولار، مستخدمين زوارق وأسلحة بدائية في 437 هجوماً على احدث سفن العالم.
لا تربح القوى الصغيرة إلا نادراً، لكنها تنجح في تعقيد حياة القوى الكبرى. يقول العالِم الاستراتيجي جون اركيا إن العالم دخل “حقبة من الحروب الدائمة غير النظامية. اما قباطنة النزاعات التقليدية، فليس لديهم الكثير مما يمكن أن يفيدنا. ولا ايضاً مبادىء الحروب الكلاسيكية القائمة على القوة الطاحنة، كما كان يعتقد الجنرال كولن باول”.
ثمة واقعة تكرر روايتها في السياسة والحروب معاً، وهي عندما نُصح ستالين بمسايرة الكاثوليك في روسيا، من أجل أن يحظى بدعم الفاتيكان. وعندها سأل: “وكم هو عدد الفرق التي يمتلكها الفاتيكان”. وعندما سمع البابا بيوس الثاني عشر بالأمر قال: “في امكانكم ان تبلِّغوا ابننا جوزف أنه سوف يلتقي كتائبنا في السماء”.
على أن نظرة العالم إلى مفهوم القوة الكلاسيكي لم تتغير: الغلبة للأقوى. وقد صرفت الولايات المتحدة العام 2013 نحو تريليون دولار على مختلف الشؤون العسكرية، في حين صرفت روسيا ما نسبته 8%، والصين 5% من مجمل نفقات العالم العسكرية. في المقابل اصبحت “القوة الناعمة” بلا حدود. المبادلات التجارية بين الأمم لم يعرف مثلها في أي مرحلة من مراحل التاريخ. والتقدم العلمي والطبي لا سابقة له. ومقياس التطور والتقدم أصبح في عدد براءات الاختراع. على رغم الدور الاقليمي الذي تفرضه ايران، وحديثها عن عودة الامبراطورية الفارسية إلى بغداد واليمن، فقد كان اول ما طلبته بعد رفع العقوبات 114 طائرة “آيرباص” أوروبية.
تصر ايران على أن الغرب لن يستطيع التسلل إليها من ثقوب “القوة الناعمة”. لكن الاتحاد السوفياتي كان قد أقام “ستاراً حديداً” من قبل. ولو كانت الصين اليوم تملك وسائل كاللغة الانكليزية والآداب والسينما، لعجَّل ذلك في سباقها الأممي المذهل. في حين تُظهر دبي براعة لا مثيل لها في تجاوز الدول الكبرى، في الطيران المدني والموانىء واجتذاب الرساميل. وشركة “الامارات” التي بدأت بطائرتين مستأجرتين العام 1985 تخدم رحلاتها الآن 140 جهة.
ربع هذا الدور، على الأقل، كان يُفترض أن يلعبه لبنان، لكنه أُقحم في جمع زبالته والبحث عن رحلات تنقلها إلى أي مكان. وما من مكان. “بلد الاشعاع” يفوح بعطور سياسييه.

اقرأ أيضاً بقلم سمير عطالله (النهار)

الهبوط أكثر تعقيداً من الإقلاع

وفيات الأعيان

ألف عام هباء ودماء

حزب العقل

أوباما الأفريقي

صنع المعجزات بعلوم الآخرين

في هذه الأثناء

في بلاد ديكارت!

صانع الأوحال

بحر المتوسط وبرّ المجر

الكوريّتــان

الأوثان

أيار العرب وحزيرانهم

عصر الطاقة