الأوثان

سمير عطالله (النهار)

في التذمر من طوفان القمامة الفعلية، غير الرمزية، الذي عم لبنان، نشرت إحدى “حركات المجتمع المدني” صورتين للعلم، واحدة تتصدره أرزة، وثانية تملؤه نفايات(1). المؤسف في الأداء الاعتراضي على التحلل المتسارع، أنه يشبه في أسلوبه أحياناً، لغة وأسلوب واخلاقيات ما يعترضُ عليه. تعابير بائخة، وتصرفات رعناء، ولافتات ثقيلة في وقت لا يحتمل، وقضايا لا تحتمل هي أيضاً التصنّع والتفكّه.
تُفقد هذه المسحة الشعواء البليدة، المطالب الملحّة أهميتها وجديتها. وتنسب ادبيات المعترضين إلى المناخ السياسي العام، الذي أفضى إلى مناخ نفسي مشوّه، فلم تعد الناس تميّز، أو تفرّق، بين لغة البيوت ولغة الشوارع، ولا بين أصول هذه وزعرنات تلك. والعلل العامة، مثل العلل الفردية، تظهر دائماً في شكل بثور أو فقاقيع، كمثل قتل الزوجات أمام ابنائهنّ وامهاتهنّ. أو كمثل مطاردة شاب حتى قتله في “ربوع” كسروان، وفي اليوم التالي يقف سياسي للدفاع عن القاتل. أو كمثل طارق يتيم، الذي لا مثيل لفعلته في أي عمل سينمائي أو إرهابي.
بعد كل توحش من هذا القبيل، يتدافع المحررون الناشئون إلى طرح الأسئلة على أطباء النفس، من أجل شرح الأسباب التي تفضي بطارق يتيم إلى استخدام سكينه 17 مرة، أو بهشام ضو إلى استخدام رشاشه في صدر المقدم ربيع كحيل. شكراً للمجهود. لكن هذا النوع من الجريمة المتباهية، لا علاقة له بفرويد. هذا “يُحلل” بالعودة إلى الصحف والتصريحات وبرامج التلفزيون، وما نقرأ وما نسمع. وهذه ليست انعكاسات سلوكيّة فردية بل هواء أصفر. الجرائم الكبرى في شوارع بيروت تولِّدُ جرائم من الحقارة نفسها، لأن هذه وتلك ستبقى دون عقاب. ودون سؤال. ولأن أعلى احتجاج يسمعه اللبنانيون سوف يكون من نوع “لا تسيّسوا المسائل، انتظروا نتائج التحقيق”. دائماً بلغة الأمر. للملهوفين، لا للمرتكبين، والقتلة.
التحلل ليس مشكلة نفسية تُحال على مدارس النمسا والمانيا في علم النفس، إنه مشكلة وطنية تُحال على المدارس نفسها في علوم الجماهير. أقسى ما في مشهد طارق يتيم وسكينه الضخم ومناكبه الضخمة واستغاثة ضحيته، كان مشهد المتفرجين. المحررون الناشئون نسوا أن يسألوا أطباء النفس عن سلوك الناس، عن تصرف العامة، عن غياب وانعدام أي شعور بالمسؤولية حيال “قتل معلن سلفاً” في وضح النهار. في هذه الحال، يُسأل، أو تعاد قراءة غبرييل غارسيا ماركيز، “قصة موت معلن سلفاً”، ومقتل سانتياغو نصار: شريكان في الجريمة، القاتل والخوف من أعيانه. الرعب من أن يكون “مسنوداً”. لا أحد “يغبّر على صبّاطه”. فقد جرت العادة، في “بلاد الأرز”، أن يجرَّم الشاهد، وأن يشعر هو بالخوف والرعب، وأن يكون هو وحده من يُحقق معه.
“وطلعته كلبنان. هو مختار كالارز”. هذا ما يوصف به النبي سليمان في التوراة، إذ يرد أيضاً أن الأرز من زَرع الرب. ولكن في تاريخ روما يرد ذكر الأرز في أمر آخر. سمّى الرومان الألمان المهاجمين “البرابرة”. وقالوا إن هؤلاء المتوحشين كانوا يعلقون رؤوس ضحاياهم على حراب أمام منازلهم. ومن أجل ألاَّ تتحلل سريعاً، كانوا يدهنونها بزيت الأرز! أرز لبنان. ضع الشجرة نفسها في يد، فتصبح نشيد الأنشاد، وضعها في يد أخرى فتصبح معرض جماجم. بلاد العائلات التي لها أجنحة عسكرية. والشارع الذي لا يرتفع فيه صوت طارق يتيم، مندفعاً نحو ضحيته كذئب جائع.
أطباء النفس لا يعالجون شيئاً يشبه التمسحة. كل ما يستطيعون فعله هو النصح باجتناب الطرق التي يمر بها التماسيح. شعار “لا كوست” محل الأرزة في عَلم خجول مستح مطوي لم يعد له مكان، ولا عاد له دار يُرفع عليها وتعزف له التحية، تذكيراً للمواطنين برباط الوطن.
طُرِحت على اللبنانيين، او من لا يزال موسوماً منهم بتفاوت هذه الصفة، مجموعة اقتراحات مصيرية خلال أسابيع قليلة: تغيير النظام. تغيير الطائف. مؤتمر تأسيسي. إسباق الانتخابات الرئاسية بانتخابات نيابية (أي حل المجلس الحالي). انتخابات رئاسية من الشعب (اللبناني). استفتاءات طائفية بين المسيحيين. الفيديرالية. رئيس قوي. رئيس غير توافقي. بل توافقي. ومعركة رئاسية بلا مرشحين. وجنّات أخرى.
ما من شعب في التاريخ تَعرّض لكل هذه الطروحات في حقبة واحدة. وكان اللبنانيون، في الماضي، يتطارحون، بكل جديّة وتواضع، افكاراً من نوع: جمهورية ثالثة، أم رابعة، أم خامسة. نابوليون الأول، أم الثالث، أم شارل ديغول. جورج واشنطن أم ابراهام لنكولن. وإذ يحتارون ما بين كليمنصو وكليبير، يفيقون في اليوم التالي على رستم غزالة. وأسلوبه. ولغته. وبوريفاجه. وعطر الأثر.
ما من شعب، في التاريخ، في العالم، يمكن أن يتحمل كل هذه الطروحات في زمن واحد. كل أسبوع، تقريباً، يؤخذ إلى اقتراح، أو اقتراع، على مصيره ونوعية نظامه ومدى حريته. وهويته وانتمائه. رجل الدولة صائب سلام كان يقول، أهمية الجناح المسيحي في الوطن تعلقه بثقافة الحرية: هم شغفهم الحرية، ونحن شغفنا القومية. خليط ناجع. لكن الفريق الذي يتعرض للحرية والديموقراطية والنظام اليوم، هو الفريق المسيحي. وهو الشريك الذي يتخلّى عن القيم والمُثل التي من أجلها أعطي جمهورية لبنان. وهو الذي يهدد بالشارع، بعدما كان الشارع الخطر الأكبر عليه. وهو الذي يهدد بالعنف، ناسياً أن خيار العنف وممارساته وانتحاراته حوَّلته إلى شتات صغير في الداخل وتيه كبير في الخارج، وجرَّدته من معناه ومن خصوصيته في الشرق.
فإذا كان الاحتكام إلى الشارع هو الحل، فهو لا يشكل سوى زقاق صغير أو زنقة مسدودة. هذه معركة ليست له. الجماهيريات ليست ميزته. والشريك المسلم لم يرتضه لأنه منبع ومصدر للرعاع والحرائق والصخب التوراتي، بل لأنه مصدر علم وتحضر، ولأنه جعل لبنان منذ اللحظة الأولى ضمن ديموقراطيات العالم وبرلماناتها، ولأن الرئاسة، ضعيفة أو قوية، كانت رمزاً للسعة الحضارية والميل الفكري ورعاية الثقافات والانتهال منها.
عندما كان للبنانيين الخيار، لم يرفعوا إلى الرئاسة ديكتاتوريا الغائياً لا يعبأ بالقيم التي يمثلها النظام والمبادئ التي تقوم عليها الجمهورية. دعونا لا نقارن النظام ببريطانيا. ثمة قول شهير لسياسي أو كاتب نسيت من هو: لا يمكن نقل وستمنستر إلى غانا!
صح وخطأ. لقد نُقِلت وستمنستر إلى الهند. هذا البلد العظيم صَهَر مئات العقائد والاعراق والعادات في ظل النظام الديموقراطي الذي ورثه عن المستعمِر. إلا أن هذا النظام لا يحميه سوى الشعور بالسيادة والإجماع عليها. والسيادة، مثل البروتوكول، لا تقبل أكثر من تفسير واحد. كذلك الإهانة، أو المهانة، أو التنقل في التبعيات والتزلم والتزلف.
في ديموقراطية مدنية مثل الهند، لا تعود الأكثرية طائفية أو عرقية، ولا تبقى الأقليات هامشاً لا حساب له. حجم المكونات الوطنية لا علاقة له بحقوق الجميع أو بتطبيق القوانين الواحدة على مختلف الفئات. الأكثرية الهندوسية ليست خارج أي قانون يطبق على المسلمين أو المسيحيين.
المواطن لا يُعرف بديانته وحدها. هي جزء من مجموعة عناصر كالثقافة والعادات والمعتقدات السياسية وغيرها. “الأكثرية” الحقيقية في لبنان هي تلك الجامعة بين الدرزي والشيعي والبروتستانتي في خانة فكرية وثقافية واجتماعية ومعيشية وقيمية واحدة. بهذا المعنى، حقوق المسيحيين مثل حقوق سواهم. والنظام الذي يُراد تغييره هو ذلك النظام النبيل الذي تطلع اولاً إلى الأقليات. هو الذي لحظ حقوق الأرمني والسرياني والكردي والبروتستانتي، وأمن تمثيلهم في الجيش ومجلس النواب وفي الحكومة. وإذا اردنا تغييره، فمن أجل استبداله بماذا؟ يعبد مليار هندي من يشاؤون. لكن في كوريا الشمالية يُرمى المسيحيون في السجون لإصرارهم على عبادة الله بدل كيم ايل – سونغ وكيم – جونغ ايل وكيم الحليق الفودين الذي يعدم خصومه بالمدافع المضادة للطائرات.
في هند فقيرة معدمة جائعة خانعة للنظام الطبقي والفئوي والاقطاعي الساحق، انشأ جواهر لال نهرو أول لجنة دستورية من كبار الأكاديميين والحكماء، وليس من الرعاع. سلم إلى هؤلاء مهمة التحديث والتطوير والجمع بين الناس وتنظيف البقع الخُرافاتية العالقة على الثوب الإنساني. صحيح أن الهند كانت امضت 2500 عام دون الخروج في اعتداء خارجي، لكن الاعتداء الداخلي كان مريعاً: مهراجات ومنبوذون ونيام على المسامير! لم يكن الأمر سهلاً، لكن الوطن ليس مستحيلاً. ولا الدولة. أو ما سماها مفكِّرو الغرب “الحكومة”، بعكس ما هو الحال لدينا، حيث الحكومة تراضٍ آني وليست ضمانة دائمة وكفاية الزامية.
الدولة، أساس كل شيء. لذلك قامت الدولة في الولايات المتحدة وفي فرنسا وفي بريطانيا وفي الهند، على أساس المواطن وليس معتقده. لا ضرورة لتعداد الأمثلة والنماذج الأخرى. اليونانيون بدأوا الاقتراع في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن ليس من أجل “الزعيم” بل من أجل “المجلس”. الشيوخ، أو الوجهاء، لاحقاً في فرنسا. وفي كل الحالات، ممثلو الناس وقضاياهم.
ليس في الأمر فلسفة كبرى. لكن بلاد المليار هندي استطاعت الصمود، فيما سقط جارها السوفياتي العملاق، بسبب طبيعة النظام في البلدين. وكاد الجار الآخر، الصين، يسقط هو أيضاً، لكنه خرج سريعاً إلى نظام السعة من إرث الديكتاتور.
بهذا المعنى، النظام اللبناني، الذي يظهر في كل عقد من يريد تهديمه، هو في عراقة – وأحياناً أكثر – من تلك الأنظمة التي لحظت حرية الفرد وحرية الجماعة وحرية الحياة. النظام في حاجة إلى تعقُّل، لا إلى تغيير. اليابان الحديثة أعادت النظر في اخطائها، لا في اخطاء سواها، اقتضاء التعقل. وفي النتيجة انتهت إلى أنها لن تقوم بعدوان خارجي تحت أي خديعة أو لأي سبب. فليس جيرانها من لا يطيق ذكريات احتلالاتها، بل هي التي يثقل ضميرها وتاريخها بذكريات الظلم والقهر.
في العقول الضعيفة يخرج الإنسان من الصنم، لكن الصنم لا يخرج من الإنسان. الفقر أيضاً لا يخرج من الإنسان. فقر الحال وفقر الرؤية وفقر المسؤولية، وخصوصاً فقر المنطق، الجامع بين الإنسان والإنسانية.

1 – راجع مقال رلى راشد “لبنان المُعتقل بين الأرزة وكيس النفايات”، “النهار”، 30 تموز 2015.

اقرأ أيضاً بقلم سمير عطالله (النهار)

الهبوط أكثر تعقيداً من الإقلاع

وفيات الأعيان

ألف عام هباء ودماء

انحسار الأقوياء

حزب العقل

أوباما الأفريقي

صنع المعجزات بعلوم الآخرين

في هذه الأثناء

في بلاد ديكارت!

صانع الأوحال

بحر المتوسط وبرّ المجر

الكوريّتــان

أيار العرب وحزيرانهم

عصر الطاقة