… عن عقوبات إيران وآمال العرب

د. بهاء أبو كروم (الحياة)

إذ يظهر عادةً أن صراعاً خفياً وقد يكون علنياً أحياناً، يدور بين وجهتين لإيران، وجهة الثورة ووجهة الدولة، فالواقع الثوري في إيران تشوبه تساؤلات عدة، وهو فعلياً لم يعد قائماً. فالقادة الثوريون الذين ينتمون إلى الجيل الأول تسترعيهم اهتمامات تتعلّق بثنائية الثروة والسلطة، وبالتالي فالأصحّ القول أن إيران التي تبحث عن الثروة اليوم هي إطار من التشعبات المذهبية التي لم تعد تمتّ الى الثورة بصلة، أو في أحسن الأحوال هي ثورة بالذاكرة، ومن دون ثوار حقيقيين، بخاصة بعدما تصالحت مع الولايات المتحدة وهادنت إسرائيل.

وإذا افترضنا أن كل ثورة يلازمها، حكماً، خطاب تعبوي ومسار أيديولوجي، فإن المتبقّي لهؤلاء يقتصر على بضع مواد تتعلق بالتنافس السني – الشيعي والصراع مع العرب والموقف من المملكة العربية السعودية. حتى أن التنافس الذي خاضته إيران مع السعودية بهدف قيادة العالم الإسلامي، أصبح في «خبر كان» بعدما شكلت المملكة تحالفاً إسلامياً ضم غالبية الدول الإسلامية وأدى إلى عزلة إيران عن العمق السني للإسلام، وهذا ما لم تعرفه إيران عندما شرعت بمفاوضاتها مع الغرب. لكن أفول المنحى الثوري لا يصبّ بالضرورة في مصلحة فكرة الدولة، وهناك كثير من المؤثرات التي تعبئ الفراغ الناجم عن هذا الأفول، سيما وأن إيران واحدة من الدول التي نجحت في تجربة التعايش بين توجهات متناقضة في ظل سلطة واحدة تتكون من مستويات عدة. وهذا الأمر ربما يحمي إيران ولا يلزمها الذهاب إلى خيارات داخلية حاسمة، بخاصة أن المحيط بإيران حالياً هو عالم متحرك من الصراعات أو التوازنات غير المستقرة.

طبعاً، التنازع بين اتجاهات السلطة يعكس المأزق الداخلي والانقسام حول أولويات المجتمع الإيراني، وهذا النقاش يعكسه التيار الذي ينتمي إلى الثنائي روحاني – ظريف ويهتم بإبراز التلازم الذي يقيمه بين سريان الاتفاق ورفع العقوبات وبين صورة إيران المسالمة، والتي تلتزم قواعد الديبلوماسية وحسن الجوار والعلاقات الإيجابية مع العالم. وهو تلازم حتمي لا يحمل التأويل ولا يتيح لإيران الاستفادة من هذه الفسحة في ما لو ذهبت في اتجاهات معاكسة. ويدعم هذا التوجّه تجربة المتشددين الفاشلة في إدارة الشأنين النووي والخارجي، اللذين أديا إلى تفاقم الأزمة المعيشية للمواطنين واستنزاف القدرات الإيرانية في الخارج، وبالتالي فإن روحاني الذي نجح في إدارة الدفة طيلة الفترة الماضية بتغطية مطلقة من المرشد علي خامنئي وتوصّل إلى رفع العقوبات، لا بد أن يُكافأ باستكمال ما بدأه والإشراف على «المرحلة الانتقالية».

طبعاً، الكل ربما يتفاءل بالمسار الإيراني الذي يعبر عنه الثنائي روحاني – ظريف، إلا العرب الذين خبروا ولا يزالون نوايا إيران وأفعالها في المنطقة. لكن دعنا نتطلّع إلى الوجه الآخر للاتفاق الذي يكمن في التساؤل التالي: هل أن هناك تفاهماً إقليمياً تمت صياغته بين طهران والولايات المتحدة على هامش الاتفاق النووي؟ وما مصير هذا النوع من التفاهم في حال حصوله بعدما تجاوزته الأحداث؟ أي بعد التدخل الروسي في سورية والموقف السعودي المتصاعد الذي أدى إلى قطع العلاقات مع إيران وتشكيل تحالفات وتكتلات عربية وإسلامية لمواجهة تدخلاتها، وهل أن إيران قادرة على ترجمة التزاماتها في مسألة كهذه، وهل الولايات المتحدة قادرة على ذلك بعدما تراجع دورها في المنطقة؟.

طبعاً الإجابة عن هذه التساؤلات تبقى رهناً بالأيام والأسابيع المقبلة، لكنْ بات من الواضح أن تقدّم إيران باتجاه الاتفاق يرافقه تراجع في القدرة الإيرانية أمام عدد من الوقائع والتطورات في المنطقة والعالم. ولا شك في أن الداخل الإيراني يتجه إلى تحديد توجهاته في انتخابات شباط (فبراير) المقبل، وفي حال ظهرت ملامح انفراجات اقتصادية ملموسة من المواطنين فذلك يساعد روحاني على تظهير نجاحاته التي تتعلق بتحسين المستوى المعيشي للإيرانيين، وهو أنجع من إحصاء عدد العواصم العربية التي تخضع لنفوذهم.

لكن مع العقوبات على طهران أو من دونها، فالدور الإيراني في المنطقة لا يزال مطلوباً من الغرب، وحدوده تصل إلى تقاطعات مع المصلحة الغربية في كثير من الأحيان، سيّما أخيراً بالنسبة إلى مسألة الإرهاب والدور الذي تدّعيه إيران في ذلك. طبعاً الغرب يُطرَب لكل من يدّعي محاربة التطرف السني، لذلك لم نسمع صوتاً يدين التدخل الروسي في سورية وقصفه المدنيين، وعلينا أن نعترف بأن لدى الغرب قناعة تذهب إلى حد تفضيل التطرف الشيعي على مثيله السني، وبغض النظر عن صحتها فهذه نظرية عبّر عنها الرئيس الأميركي باراك أوباما، حتى أن مرشحين في المعركة الرئاسية في الولايات المتحدة ينخرطون في هذا النقاش ويهللون للتدخل الروسي في سورية انطلاقاً من هذه الزاوية. هذا الأمر بالتحديد كان واحداً من الأسباب التي أدت إلى اتفاق الغرب مع طهران. طبعاً العرب يقفون أمام عالم تسوده التواطؤات على مصالحهم ويدفعون أثماناً غالية نتيجة لذلك، لكن آمالهم هذه المرة تذهب في الاتجاه الصحيح لأنها تنطلق من الإرادة التي عبروا عنها في وضع الحد لتدخلات إيران.