بوتين السوري ونموذج بريشتينا!

د. بهاء أبو كروم (الحياة)

الحشد العسكري الروسي في سورية يختلف هذه المرة عن سابقاته، لكنه مع هذا ليس جديداً. فقد سبق لروسيا أن فعلت الأمر نفسه في كانون الثاني (يناير) 2013 حين كانت بوارجها تزور ميناء طرطوس في شكل يومي وتجري مناورات ضخمة أمام الشاطئ السوري بمشاركة قاذفات استراتيجية وطائرات بعيدة المدى وغواصات وسفن أنزلت قوات برية على الساحل السوري. وفي الجنوب السوري، استولت المعارضة على غرف عمليات كان يديرها ضباط روس بالقرب من القنيطرة، ويقوم الروس بتزويد الأسد بمعلومات وصور من الأقمار الصناعية منذ اليوم الأول لاندلاع القتال.

وبالتالي فالتدخل المتصاعد حالياً لا يعني أن روسيا تستطيع منع الضغوط العسكرية التي تمارسها المعارضة على النظام، بل يعني أن روسيا أقحمت نفسها في خيار من اثنين، إما أن تكون شريكاً يأخذ مكان إيران ويقبل تسوية سياسية تضمن التعايش بين مكونات سورية من دون الأسد، أو أن تكون شريكاً للأسد في خسارته وبالتالي تفقد مصالحها في المنطقة على المدى البعيد.

أما الأسد الذي باع جزءاً من دمشق وحمص لإيران عندما كانت روسيا منهمكة في أوكرانيا خوفاً من تسوية على حسابه، فلا يتردد في بيع جزء من الساحل لها بعدما وقّعت إيران اتفاقاً «واعداً» مع الغرب وأخذت أولوياتها تتبدّل.

روسيا بدورها تبحث عن مدخل يجبر الأوروبيين على نسيان القرم وإعادة النظر بالعقوبات الاقتصادية، ولم يعد بإمكان بوتين التفرج على ما يتم التحضير له بعد انسحاب الأطلسي من أفغانستان وانكشاف حدوده على عودة حركة طالبان من جهة، ومن جهة أخرى على تجارة كارثية للمخدرات التي يصل ثلث إنتاجها إلى روسيا أو يمر عبرها، وهو يستجدي التنسيق مع الأميركيين حول انسحابهم. والغرب قدم لبوتين تجربة إيران التي يستطيع الاقتداء بها إذ ظلّت تشاغب حتى نالت مفاوضات، ومن ثم اتفاقاً مع الغرب يَعِد برفع العقوبات. طبعاً الساحة السورية تتمتع بالخصوبة الكافية لسيناريو مشابه يتعلق بالدور الإقليمي لروسيا.

والتوصيف الأقرب للإنزال الروسي في سوريا هو نموذج بريشتينا. ففي 12 حزيران (يونيو) 1999 وبعد 3 أيام من وقف الحملة الجوية التي أطلقها الحلف الأطلسي على يوغوسلافيا السابقة، دخلت القوات الروسية التي كانت تعمل ضمن القوات الدولية في البوسنة إلى كوسوفو لتنتشر حول مطار بريشتينا قبل ساعتين من وصول القوات البريطانية والفرنسية إلى هناك، وتقتطع لنفسها منطقة بحجة حماية الصرب من ردود الفعل المتوقعة، وتلتف على محاولات إبعادها عن إطار الحل السياسي في يوغوسلافيا. حصل ذلك أيام الرئيس بوريس يلتسن وقيل حينها إن القيادة العسكرية نفذت هذا الانتشار من دون علمه. لكن الصرب الذين استبشروا خيراً بوصول الروس اضطروا إلى مغادرة كوسوفو ولم تحمهم روسيا من عمليات الثأر والانتقام حتى أن كثيرين من الصرب أحرقوا منازلهم قبل إخلائها!

طبعاً دوافع روسيا لرفع وتيرة تدخلها في سورية تحمل طابعاً استراتيجياً، فإطالة عمر الأزمة يعني إشغال الإسلاميين في الشرق الأوسط وتأخير انتقالهم إلى جوار روسيا والقوقاز، والحاجة السعودية للتنسيق العسكري مع الروس في سورية تقابلها حاجة روسية للتنسيق مع المملكة في ما يتعلق بالشريط الإسلامي المحاذي لحدودها في آسيا الوسطى.

لكنّ هناك جزءاً من هذه الدوافع يتعلق بالموروث النفسي الذي تختزنه الإدارة التقليدية هناك، فبوتين يحاول التذاكي على الغرب بعد تجربة ليبيا التي اعتبرها طعناً به وأدت إلى أن يستأسد في سورية، ويحاول أخذ القيادة المصرية إلى جانبه في الشمال السوري ووضعها في مواجهة تركيا المتهمة بدعم «الإخوان المسلمين» في مصر.

لقد أعطى العرب روسيا الوقت اللازم لإدارة الحل السياسي بعد امتناعها عن التصويت على القرار 2216 المتعلق باليمن والصادر عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع. طبعاً هذا الموقف قبضت ثمنه روسيا بالانفتاح العربي عليها والوعود باستثمار بلايين الدولارات وعقود بيع أسلحة مع المملكة العربية السعودية ومصر. وبالتالي فروسيا لن تذهب إلى حد التفريط بما استفادت به نتيجة الأخطاء الأميركية في المنطقة، وهو ما سيحكم مرحلة تواجدها في سورية ويرسم سقفاً له.

بوتين في سورية يلعب في الفراغ الذي يتركه أوباما لا أكثر، وهو فراغ لن يقوى على ملئِه من دون البوح بالأهداف الحقيقية التي تقف وراء تدخله في هذا الشكل، وهذا ما لا يستطيع فعله، إذ الكل يعرف أن روسيا ليست من يستطيع هزيمة «داعش»، وليست الولايات المتحدة أو إيران أو غيرها مَن يهزم «داعش». من يفعل ذلك في المنطقة هو المشروع السياسي البديل القائم على القوى المحلية مع تغطية ودعم عربيين، في العراق كما في سورية. وربما كما في الشيشان في مرحلة لاحقة، تستطيع روسيا سحب الأسد بأمان إلى مكان ما، لكي يُصار بعد ذاك إلى محاربة «داعش»، لكن متى يعي بوتين ذلك؟ هذا هو السؤال!