الديكتاتوريات والثورات والفوضى العربية غير الخلاّقة!

رامي الريس (النهار)

مع إندلاع الثورات العربية (حتى لو استكثر بعض غلاة المدافعين عن الطغاة الموافقة على هذا الوصف) ودخول العالم العربي بأعمق موجة من التحولات السياسية غير المسبوقة، فإن محاولة استشراف مآل هذه الثورات مغامرة فكرية غير محسوبة النتائج ولا سيما قياساً إلى المدى الزمني القصير الذي خيضت فيه غمار هذه التجارب.

لكن هل يحتمل الوضع الراهن الذي تتمظهر فيه كل أشكال العنف والسادية والقتل والتصفية الجسدية، الغرق في نقاش نظري أو فكري أو ثقافي يتصل بوصف الحال المضطربة والمكفهرة التي تمر بها المنطقة العربية، وما إذا كانت تُسمّى ثورات أو حروباً أو نزاعات مسلحة؟

Thomas-Jefferson

يقول توماس جيفرسون الذي وُصف بأنه باني مفاهيم الحرية الأميركية في القرن الثامن عشر: “لا بد من إنعاش شجرة الحرية بين الحين والآخر بدماء الوطنيين والطغاة، فهذا هو سماد الحرية الطبيعي”. بقطع النظر عن موقف أيّ مراقب أو مفكر عربي حيال أميركا وسياسات المعايير المزدوجة التي تعتمدها منذ عقود في فلسطين أو في الشعارات التي تدّعي بأنها تدافع عنها، كالحرية وحقوق الإنسان بينما هي تتغاضى عنها في علاقاتها مع الأنظمة التي تحقق لها مصالحها؛ ذلك لا يلغي أن منظومة قيم سياسية تم تكريسها في هذا الإطار النظري التي يمكن وسمها في إطار الديموقراطية الثورية.

كي لا يُصنّف مفكرو الممانعة هذا الكلام بأنه يصّب في إطار الترويج للمنظومة الإمبريالية الإستكبارية الدولية (رغم أن عقد الصفقات السياسية وقريباً الإقتصادية والتجارية والمالية يُسقط عنها صفة الشيطنة التقليدية ويفسح المجال أمام تقارب غير مسبوق رسمته المصالح بين أكثر الأنظمة ثيوقراطيةً وأكثر الأنظمة رأسماليةً وإمبرياليةً)؛ فإنه لا يعدو كونه مجرد إستشهاد بحقبة تولدت منها ثقافة سياسية انفتاحية من دون الإرتكاز على أي دعائم تاريخية أو حضارية تُذكر، في حين أن الحضارات، خصوصاً العربية منها، قد تساقطت أوراقها وذبلت أغصانها رغم التراث المتجذر في العلم والفكر والثقافة والمعرفة.

شكيب ارسلان

في كتابه الشهير، “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم سواهم؟”، يقول الأمير شكيب أرسلان إن أسباب إنحطاط المسلمين هي الجهل والعلم الناقص وفساد الأخلاق والجبن والهلع وتخليهم عن ثقافتهم وديانتهم. غنيّ عن القول إن هذه الأسباب الجوهرية التي أشار إليها “أمير البيان” في العام 1930 تفاقمت في الحقبة الراهنة، فنسب الأمية والفقر وحالات الجهل والتخلف تزايدت في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي خلال القرن العشرين على الرغم من تخلص البلدان العربية من الإستعمار والإحتلال والإنتداب. هذه الحال من اللامبالاة، كي لا نقول الإستخفاف والإستهزاء، التي طبعت أداء معظم أنظمة الطغيان العربي مع مسألة البحث العلمي والتربية عموماً، أفضت إلى ما نحن فيه اليوم.

ولكن، من الضروري جداً أن يميّز المواطن العربي بين الديكتاتورية والديكتاتوريين وبين الثورة والثوريين. فليست الثورات مسؤولة عن الفوضى التي تمر بها المنطقة العربية اليوم، بل الأنظمة القمعية التي أفرغت منهجياً مجتمعاتها من النخب السياسية والفكرية والثقافية وحوّلتها إلى مجتمعات خائفة متجهمة مستسلمة مستكينة. في مؤلفه الشهير، “طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد” كتب عبد الرحمن الكواكبي: “الإستبداد يسلب الراحة الفكرية فيضني الأجسام بالشقاء فتمرض العقول”، بعد أن يكون شرح أنه “من أقبح أنواع الإستبداد، إستبداد الجهل على العلم، وإستبداد النفس على العقل”. مهما يكن من أمر، فإن إعادة تصويب النقاش في إتجاه التأكيد الحاسم لمسؤولية الديكتاتوريات في ما وصلت إليه المنطقة العربية، باتت ضرورية على ضوء تمادي البعض من غلاة غلمان الطغاة في التأكيد أن بدائل استمرار هذا الطاغية أو ذاك هو الفوضى والإرهاب! إنه ذاته الإرهاب الذي ترعرع في الغرف السوداء لتلك الأنظمة. وما أكثرها.

الكواكبي

إن القول بأن على الشعوب العربية أن تختار بين الديكتاتوريات أو الفوضى، يرتكز على معادلة خاطئة. صحيح أن عملية الإنتقال من الأنظمة التسلطية إلى الديموقراطية لا تحصل بطريقة أوتوماتيكية كما توهمت الإدارة الأميركية عند غزوها بغداد في العام 2003. لكن هذا الإضطراب في مرحلة الخروج من حقبة الديكتاتوريات لا يبرر إستمرارها أو إعادة تعويمها كما قد يتراءى لبعض القوى الدولية والإقليمية التي تتباهى بهدير الطائرات التي سرعان ما سيكتشف محرّكوها أنها ستعود إلى قواعدها خالية الوفاض إلا من سجلات قتل جديدة لسلسلة جديدة من الأبرياء.