برنامجا إيران الإمبراطوري والنووي وتصرّف العرب

د. بهاء ابو كروم (الحياة)

أكثر من تساؤل يحيط بالمنهج الذي يطبع العلاقة مع إيران في مرحلة اتفاقها مع الولايات المتحدة، والنموذج التي ستكون عليه السلطة في الداخل الإيراني والتوازنات التي ستطرأ على المنطقة، خصوصاً أن العرب أحدثوا صدمة كبيرة لإيران بددت كثيراً من المخاوف التي قد تنجم عن رفع العقوبات المفروضة عليها.

إن أبسط ما يمكن قوله هو أن منطقة الشرق الأوسط عاشت على وقع المفاوضات الإيرانية مع دول خمسة زائد واحد منذ انطلاقتها باعتبارها الاستحقاق الأقوى الذي يفرض نفسه على الوقائع. وقد بالغ حلفاء إيران في البناء على التواطؤ القائم بين إيران والولايات المتحدة لتحسين شروطهم وساعدهم بذلك تراخي الإدارة الأميركية وسكوتها عن تجاوزات هؤلاء الذين استباحوا ساحات العراق وسورية واليمن، أما حلفاء الولايات المتحدة فقد بالغوا في مخاوفهم من تأثير هذا الاتفاق سلباً على أوضاعهم، بدورها إسرائيل خاضت مواجهتها مع الإدارة الأميركية قبل إعادة انتخاب نتانياهو ومن ثم سكتت عن الاتفاقية المزمع عقدها سكوت أهل الكهف. وحده من بين كثيرين إطمأنّ رئيس الائتلاف الوطني السوري خالد خوجة إلى موقف الولايات المتحدة واعتبر أن «انتهاء المفاوضات النووية مع إيران، مهما كانت نتائجها، سوف تجعل واشنطن «طليقة اليدين» في تصرفها تجاه طهران».

من الواضح أن اتفاق الإطار الذي أبرم في لوزان (نيسان/أبريل 2015) والصيغة النهائية المتوقعة للاتفاق في 30 حزيران (يونيو) لا يشكلان الحدث الأبرز الوحيد الذي تُصاغ وفقه التوازنات في المنطقة. إنما هناك بعض الوقائع التي حصلت خلال 2014 تركت أثراً كبيراً على التوازن الدولي والإقليمي، أهمها تورط روسيا في أوكرانيا وفرض العقوبات الاقتصادية عليها، ثم سقوط الموصل بيد داعش وتمددها في العراق وسورية، ثم تشكيل التحالف الدولي لمحاربتها من خارج مجلس الأمن، إضافة إلى هبوط أسعار النفط وإمساك المملكة العربية السعودية بهذه الورقة الاستراتيجية والمصالحة مع قطر وتركيا ومساندة مصر، ثم انطلاق عاصفة الحزم بتحالف عربي إسلامي عريض في آذار (مارس) 2015. كل تلك المحطات أعادت ترتيب الأولويات وأعادت توزيع نقاط القوة والضعف بين الأطراف الإقليميين.

مجمل تلك المحطات لم تصب لمصلحة إيران التي ركزت على الدعاية الإعلامية من جهة وعلى العمل المباشر في الساحات المختلفة من جهة ثانية وذلك لكي يتسنى لها القول أنها تسيطر على الميدان بغض النظر عن المعادلات القائمة. لكن في المحصلة أخذت تخسر ميدانياً في سورية وتعثرت مغامرتها في اليمن وظهر دورها في العراق بأبشع صوره. إيران استقوت بالتفاوض الجاري مع الولايات المتحدة وأوغلت في استغلال غض الطرف الأميركي عنها وبذلك تنامت المخاوف عند العرب الذين اعتبروا ذلك تواطؤاً على مصالحهم.

وبغض النظر عن نتائج كامب ديفيد وعن المظلة الغربية للاستقرار العربي، فعلى العرب أن يفعلوا كما فعلت إيران، أي التوجه إلى الميدان والعمل المباشر في الساحات العربية واعتبار عملية عاصفة الحزم فاتحة لهذا المسار المستدام، فتقدم المعارضة في سورية يثبت جدوى ذلك من دون أن ننسى ضرورة خوض معركة ديبلوماسية لنزع الشرعية نهائياً عن بشار الأسد الذي أدينت حكومته باستعمال الأسلحة الكيماوية ولا تزال التقارير تثبت إعادة استعمالها لتلك الأسلحة واستكمال الخطوات التي تثبت التعاطي مع الائتلاف الوطني السوري كونه الممثل الحقيقي للسوريين.

الرئيس الأميركي باراك أوباما ليس مبدئياً كفاية ليبقى ثابتاً على قناعاته بقدر ما هو براغماتي يتقن لغة المصالح ويدير أموره من دون خلفيات أيديولوجية، وهو يحسبها من زاوية وقف البرنامج النووي الإيراني وتقوية تيار الرئيس روحاني على حساب المتشددين من دون تعقيدات أخرى، لكن على رغم ذلك هو يلحق بالموقف العربي القوي والصارم عندما يتشكّل من عوامل قوة ذاتية كما فعل ذلك مع مصر عندما وقفت معها السعودية من دون اكتراث بالموقف الأميركي.

بعد عاصفة الحزم وخسائر نظام الأسد تجهد الإدارة الإيرانية باتجاه التفاوض على نفوذها في المنطقة، أي بمعنى آخر التفاوض حول مستقبل جماعتها، وهذا ما حدده وزير الخارجية الإيراني عندما ألمح إلى «حوار إقليمي كالذي أمّن الاستقرار في أوروبا الشرقية بعد الحرب الباردة». طبعاً دعوة تخفي في طياتها طموحات «بلقنة» المنطقة وتقاسمها، أو تشبه تلك التي تعطي امتيازات للدول الإقليمية القوية في الدول العادية الأقل قوة، امتيازات من النوع الذي أُعطي لألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وطرح مسألة القوميات في أوروبا، أو بأفضل الحالات تعتمد النموذج اللبناني في استجداء التوافق مع إيران عند أي استحقاق يتعلّق بتقاسم السلطة في داخله.

إيران ليست غبية، هي تدرك حجم الصعود الآخذ في مواجهتها واستحالة احتواء هذا الصعود إلا عبر التفاهم مع الولايات المتحدة، لكن في مقابل ذلك تدرك أيضاً استحالة الحفاظ على بشار الأسد وتريد التفاوض على ما تبقى من سورية قبل سقوطه.

العرب لا يستطيعون كمجموعة الاعتراف لإيران بهذه الأفضلية، خصوصاً في هذا الوقت الذي قدّمت فيه إيران للعرب نموذجاً فجاً للعلاقات معهم. وبالتالي فمن حقّهم رفض التحدث مع إيران حول شؤونهم الداخلية. فالذي قوّض الاستقرار في دولهم ليس إلا ضرب إيران لفكرة الدولة التي نشأت بعد حقبة الاستعمار وأخذها باتجاه أن يصبح نموذج الدولة في هذه المنطقة مجتمعياً، أي قائم على أجزاء مفككة ومجتمعات مسلّحة وشعارات ظهر خواءها.

ولبنان نموذج لهذه الاستباحة التي فككت أسس الدولة وحوّلت أركانها إلى مستتبعات لاستراتيجية جماعة واحدة مُلحقة بإيران.

ليس ثمة ارتباط بين برنامج إيران النووي الآخذ بالانكشاف أمام الغرب وبرنامجها الإمبراطوري المكشوف أمام الجميع، إلا أن رهان أوباما على تقوية التيار المعتدل هناك ليس منطقياً لسبب وهو أن تدخل إيران المباشر في سورية واليمن والعراق يجري أيام الرئيس «المعتدل» روحاني، وانتعاش إيران اقتصادياً يعني في ما يعنيه انتعاش الحرس الثوري المتورط في حروب المنطقة، معادلة قد تتغير فقط في حال تخلت إيران عن برنامجيها النووي والإمبراطوري في آن، وذلك لن يتم وفقاً لرغبة الولايات المتحدة في تقليم أظافر إيران إنما تبعاً لما يفرضه العرب في الميدان.!