الثورة السورية بين «حزم» المملكة و «شرعية» الجامعة

د. بهاء ابو كروم (الحياة)

العلامة الفارقة الأهم التي وسمت انطلاق عملية «عاصفة الحزم» لم تكمن في ما حملته طائرات التحالف من مضمون عسكري حازم، بل في ما حمله الموقف السياسي الحاسم للمملكة العربية السعودية. فنجاحها في بناء تحالف إقليمي خارج إطار مجلس الأمن كان هو الأساس الذي يؤشّر إلى صلابة الموقف، إضافة إلى أخذها أمر المواجهة مع إيران بيدها. وقد أتى ذلك تتويجاً لسياق طويل من العمل الدؤوب الذي قامت به المملكة على مدى الأعوام السابقة، وأهم أوجهه التركيز على مجلس التعاون الخليجي الذي شكل بديلاً عن فشل الجامعة العربية في إدارة الشأن العربي بعدما تآكلت فعاليتها جراء التناقضات وبخاصة بعد فشلها في التعاطي مع الملف السوري. أضف إلى ذلك الثبات الذي تحلّت به السياسة الخارجية للمملكة تجاه مجمل القضايا والملفات بخاصة تلك التي شهدت تدخلاً إيرانياً فاضحاً.

فرحتنا في الحزم الذي تحلى به العرب في الرياض قابلتها غصة نتيجة الفراغ الذي أرخى بثقله على مقعد الثورة السورية في القمة العربية في القاهرة. هذا الخلل الذي حصل لا بد أن يفرض نفسه على المسار السياسي المتعلّق بالشرعية التي اكتسبتها قوى الثورة مع الوقت، بخاصة في ظل رعاية دول الخليج لهذه القوى.

فغياب مصر عن الملف السوري طيلة السنوات السابقة ودخول إيران عليه جعل منه أولوية بالنسبة الى دول الخليج العربي التي بادرت إلى دعم الثورة السورية منذ بداياتها، وهي اتخذت الموقف الأخلاقي المناسب الذي أتت نتائجه تلقائياً بنزع الشرعية عن نظام الأسد، وهذا ما عكس نفسه لاحقاً على مواقف وقرارات الجامعة العربية التي قامت بتجميد عضوية سورية في الجامعة عام 2011، ولاحقاً اعترفت بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب السوري والمُحاوِر الأساسي مع الجامعة العربية عام 2013. وبقيت السعودية تطالب بتسليم مقعد سورية للائتلاف ليشكل ذلك «رسالة قوية للمجتمع الدولي بمساندة الائتلاف» بحسب وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل.

في السياق هذا أتاحت قمتا الدوحة (2013) والكويت (2014) لعَلم الثورة ان يرتفع على مقعد سورية، الأمر الذي لم تتحه قمة القاهرة (2015) التي وضعت علم النظام مكانه.
طبعاً مصر تعود إلى الملف السوري من خلال هذه الرمزية، وهناك اعتبارات «ملتبسة» فرضت على مصر هذا الموقف، وهناك أيضاً مستجدات فرضت على العرب «مراعاة» الموقف المصري الذي يتحسّس من الموضوع الإسلامي والعلاقة مع تركيا، لكن النتيجة كانت واحدة بالنسبة للسوريين وهي تراجع في مكانة قضيتهم بالنسبة إلى الموقف الرسمي العربي في هذا الوقت تحديداً.

هذا التراجع يشي بإمكانية الانقياد، ربما عن غير قصد، إلى المنطق الذي تتعاطى به الولايات المتحدة بالنسبة إلى الأزمة السورية، وهو التطلع إليها من زاوية أولوية «الحرب على الإرهاب» أو إلى المنطق الذي يتستّر خلفه الموقف الروسي وهو ضرورة الحفاظ على مقومات الدولة السورية لكي يضمن ذلك تعويم نظام الأسد.

تراجع الملف السوري في الجامعة العربية بهذه الطريقة، يتيح التساؤل عن طبيعة الفهم المشترك الذي يتبناه العرب حول حقيقة ما يجري هناك، وعن تشخيصهم المختلف لمفهوم الأمن القومي الذي تزايد الحديث عنه مؤخراً وهو الذي شكل الدافع الرئيسي لتشكيل القوة العربية المشتركة. فسورية هي التي فضحت الدور الإيراني وكشفت أطماع إيران العقائدية والجيواستراتيجية في المنطقة، ناهيك عن أنها الساحة المعوّل عليها لإلحاق الهزيمة بالمشروع الايراني، وهي التي فضحت أيضاً الدور الروسي الذي يقلّل من شأن القضايا العربية ويتصادم مع المصلحة العربية في مجمل الساحات، ولولا الكلام الواضح الذي أدلى به الأمير سعود الفيصل خلال القمة لكانت رسالة امبرطور روسيا إليها قطعت مع سيل من التشكرات التي كانت لتقع على مسمع السوريين كما تقع عليهم براميل النظام المتفجرة!
لقد نجح العرب خلال القمة الأخيرة في احتضان التحالف القائم بقيادة المملكة العربية السعودية لمواجهة أزمة اليمن، ونجحوا في التحلّق حول مصر في حربها على الإرهاب، وإقرار القوة العربية الموحدة، ونجحوا في تأمين الغطاء السياسي للفلسطينيين في معركتهم الدبلوماسية وفي دعم موازنة دولة فلسطين وملفهم الإقتصادي حيث يواجهون العقوبات، لكنهم وضعوا المسألة السورية في مكانة سياسية متراجعة، وكان من الخطأ أن لا يشغل الإئتلاف الوطني السوري مقعده وأن يحتل علم النظام هذا المقعد، وهذا يلحق الضرر بوضعية القوى المعتدلة المعوّل عليها لمحاربة التطرف بأشكاله في سورية، أضف إلى أنه تصرّف غير مُبرّر بالمعنى السياسي.
من باب المقارنة، فالمملكة العربية السعودية تقود تحالفاً عسكرياً لدعم شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي في اليمن على رغم خسارته كل جيشه تقريباً، وعدم قدرته على الاستحواذ على منطقة محررة يضع فيها حكومته أو مقراً رئاسياً واحداً يكون آمناً للقيام بمهماته. الرئيس هادي بالمعنى الميداني قد لا يكون لديه موطئ قدم في اليمن حالياً، لكن في مقابل ذلك فإن شرعيته وحجم التأييد له بين اليمنيين ثم حجم الاعتراض على انقلاب الحوثيين وعلى الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، كل ذلك يكفي لكي يخوض التحالف معركة عسكرية لتثبيت الشرعية ولمساعدة اليمن على التخلص من سطوة إيران وجماعتها.

أيننا من هذا الحزم في سورية؟ أقلّه على المستوى السياسي. فالثورة السورية التي استبشرت خيراً بانطلاق «عاصفة الحزم» عادت وصُدِمت بموقف الجامعة العربية منها، حيث كان ينبغي التوقف أمام التضحيات التي يقدمها الشعب السوري في الاتجاه ذاته الذي يحكم المسألة اليمنية حالياً والتصرف بحزم سياسي على الأقل ليُعطي العرب إشارة واضحة للمجتمع الدولي لكي يتحمل مسؤولياته وواجباته في الملفين السياسي والإنساني تجاه السوريين. أما وضع الإئتلاف السوري المعارض في خانة هذه الجماعة أو تلك، أو التعاطي معه على قاعدة انحيازه للدول التي احتضتنه ودعمته، فذلك قد يكون مجحفاً للسوريين في هذه المرحلة الدقيقة.

إن التهيئة لأي مبادرة سياسية أو توجه سياسي تتحضر إليها مصر أو غيرها لحل المسألة السورية لا تغني عن تشكيل مظلة سياسية أو موقف سياسي عربي يكون واضحاً ولا لبس فيه ويتيح على الأقل الارتكاز إلى ما تراكم من مواقف وخطوات كانت الجامعة العربية سباقة في بلورتها مع بدايات الأزمة.