كيف عادَ المعلم كمال جنبلاط من القاهرة إلى معانقةِ قدره؟

احمد منصور

جمعتني صدفةٌ طريفة بالصحافي المعروف رئيس تحرير “الأسبوع العربي” السابق الأستاذ ابراهيم سلامة في باريس فدعوتهُ لزيارتي فوافق على الفور، وامتدَّ بنا الوقت طويلاً فتكلمنا في مواضيع متعدّدة كان أهمّها ما رواهُ لي عندما استدعاه المعلم الشهيد كمال جنبلاط إلى لقائهِ في فندق الهيلتون في القاهرة في شهر أيلول 1976.

قال الأستاذ ابراهيم: جاءني الأستاذ محسن دلول إلى بيتي طالباً مني مقابلة المعلم. فوصلت إلى غرفة النائب سالم عبد النور رجل الأعمال اللبناني حليف المعلم المقيم بشكلٍ دائم في الفندق بغرفتهِ المشهورة رقم (252). سلّمت عليه وسألتهُ: كيف مزاج المعلم؟ ماهي أخباره؟ باعت ورائي، تلفن له.. أخبره .. ابراهيم عندي.. اجابه المعلم: خلّي يطلع. طلعت لعنده…

بدأتُ أُعاتبهُ على تصريح ٍلهُ في صحيفةٍ كويتية: “إنَّ الموارنة اغنياء والمسلمون فقراء”.

يا بيك أول شيء: فيك تعطيني إسم ماروني غني؟

– لا جواب …

قلتُ لهُ عندئذٍ: أسماء الأغنياء أولاً: فتّال ليسَ مارونياً بلْ سريان كاثوليك. هنري فرعون: روم كاثوليك. بيت بدارو: روم أرثوذكس. جورج أبو عضل: روم كاثوليك. سعيد يونس: سنّي. ولا ننسى عندكن من الدروز: نجيب صالحة، نجيب علم الدين. فأينَ الماروني بين هؤلاء؟

كمال جنبلاط

المعلم: شوّهو تصريحاتي بالكويت.

ابراهيم: يا بيك دوّر الراديو….

المعلم: ليش يا عمي؟

ابراهيم: منشان ما تسجّل المخابرات.

المعلم: يا عمي ما كنت اعرف هذا.

ابراهيم: ماذا تريد الآن؟

المعلم: قالوا لي: بومدين صديقك (يعني رئيس جمهورية الجزائر آنذاك).

ابراهيم: نعم.

المعلم: هناكَ مؤتمرٌ سداسيّ في الرياض لبحث الموضوع اللبناني وهيئتهم راح يستبعدوني.

ابراهيم: بس أنا بدّي روح للجزائر. ما فيي روح من القاهرة، لأنّي مراقب مثلك من المخابرات. أروح إلى باريس ومنها إلى الجزائر.

المعلم: استدع ِعمك سالم. دخلَ النائب سالم فقالَ لهُ المعلم: أخي ابراهيم بدّو يسافر للجزائر عن طريق باريس. أمّن لهُ التذكرة.

ابراهيم: أنا مشيت…. بعدَ يومين قال لي النائب سالم: تعال خذ التذكرة. حطيت التذكرة في جيبي وعدت إلى كمال جنبلاط قائلاً: ماذا تريد من هواري بومدين؟

المعلّم: بدّي أعرف إذا كان إبعادي عن المؤتمر السداسي في الرياض، هو قرار سوري أم عربي أم أمريكي؟

ابراهيم: بس هذا؟ ….

المعلم: بس هذا….

ابراهيم: ذهبت بالطائرة إلى باريس. من باريس اتصلت بمدير مكتب بومدين الدكتور عميمور قائلاً: بكرا جايي.

طيارتي الحادية عشر صباحاً لأمر خطير.

عميمور: أنا استقبلك بسيارة الرئاسة على المطار.

ابراهيم: وصلت وكان باستقبالي عميمور. ذهبنا سوياً إلى وزارة الدفاع مقرّ الرئيس بومدين حيثُ يقيم وينام. دخلت على بومدين. تصافحنا. أشعل بومدين سيجارة. قالَ لي: خير انشا الله! قلت: كمال جنبلاط طالب مني أن أسألك: هل قرار إبعاده عن المؤتمر السداسي في الرياض سوري أم عربي أم أمريكي؟

أجاب بومدين: خـذْ الجواب الرسمي، وبعدين منحكي… الرسمي: أهلاً وسهلاً بكمال جنبلاط وأعضاء حزبهِ لاجئين سياسيين في الجزائر. …. دقائق مرّت دونَ كلام…

ابراهيم: قلتُ لهُ: الآن اعطني الحديث غير الرسمي….

بومدين: كمال جنبلاط سيـُقْـتَـل…

ابراهيم: أنهيت المقابلة وذهبت إلى الفندق. لكن أصابني إضطرابٌ شديد نظراً لمحبتي الشخصيّة لكمال جنبلاط.

ولأنَّ الحرب ستستمر.

حجزت للعودة إلى باريس، ولم أنم طيلة ليلتين. بعد باريس أخذت الطيران المصري وعدت إلى القاهرة لمقابلة المعلم.

دخلت إلى فندق هيلتون فوجدت المعلم في الكفيتيريا مع الوسيط العربي الحبيب الشطّي التونسي. ما أن جلست إلى الطاولة حتّى بادرني المعلم قائلاً: يا عمي كل ما بدهم يخربطو قضية عربية بيبعتو مندوب مغربي… شو عرّفن بالمشرق ومشاكلو؟ … فهِمَ الشطّي الرسالة وانصرف.

ابراهيم: قلت للمعلم: لنذهب إلى الغرفة. دوّرنا الراديو كالعادة وقلتُ لهُ: جواب بومدين الرسمي: أهلاً وسهلاً بك

وبقيادة حزبك لاجئين سياسيين في الجزائر. فهبَّ المعلم من مكانهِ وأخذَ يضرب زجاج شبّاك الغرفة المطلّة على النيل ويقول: أنا ما بعمل لاجيء سياسي عند أحد… بدي أرجع موت مع شعبي…

رأيتهُ بغاية الإضطراب والعصبيّة فخرجت مستنجداً بالعم سالم عبد النور: إطلع. كمال بيك مش على بعْضو. طلع سالم. جلسَ المعلم على المقعد لفترة ٍقصيرة ثمَّ قالَ بهدوء: يا سالم أطلب لي المطران مكاريوس (رئيس جمهورية قبرص). طلب لهُ المطران فتحدّثا بالإنجليزية. فهمت من المحادثة أنَّ كمال جنبلاط ينوي الذهاب إلى قبرص. فحزنت للأمر، وطلبت الإنصراف كي أنامَ بعدَ يومين من الأرق المستمر.

نمت… أتيت بعدها السابعة والنصف صباحاً وجدت في الفندق: شوكت شقير، سامي الخطيب، وابراهيم قليلات بالإضافة إلى محسن دلّول العضو الإشتراكي المرافق الخاص. سلّمت عليهم جميعاً ولم أتكلم…. الأربعةُ أقنعوه بعدم الذهاب إلى قبرص، ومن مصلحتهِ أن يعود إلى لبنان.

عدت إلى باريس وسمعت نبأ إغتيالهِ في 16 آذار 1977.

 ملاحظة: لقد آثرت ترك الحوار كما هو غالباً بالعاميّة لنقل الصورة الصوتيّة كما كانت إحتراماً للجميع ولروح المواقف. أنا كناقل ليسَ إلاّ لحدث غير عادي مع شخصية غير عادية في تاريخ منطقتنا ولستُ في موقع التعليق، رغمَ تأثري الذي صورتهُ شعريّاً فيما مضى.

على كلٍّ لقد كُتِبَ الكثير عن المعلم الشهيد كمال جنبلاط وما زال الكثير ينتظر الكتابةَ عنهُ.