كيفَ عانيتُ محنتي مع الصحافة؟

احمد منصور

ربعُ قرنٍ وأنا أُحاصِرُ عبثاً قلعةَ الصحافة من القرن الفائت في بيروت بإستثناء طاقةٍ صغيرة انفتحت أمامي في أوائل الستينات عندَ أستاذٍ طيب إبن جبل: الأستاذ سليمان أبو زيد صاحب يومية إسمها “الدنيا الجديدة” في بيروت عروس المتوسط وبلد الخنق والشنق للبراعم المنسيين لا بلد الإشعاع والإبداع كما يتبجّحون ترداداً صباحاً ومساء ليلاً ونهاراً.

دخلتُ على رئيس التحرير مقدّماً نفسي، فرحّبَ وشرّع صدر مطبوعته. بدأتُ أكتب: مقالي الأول كان على طريقة “صراحة هيكل” ردّاً على ما كتبَ الملك حسين والذي يناقض برأيي الواقع. كرّت المسبحة حتّى المقال السابع. استدعاني عندئذٍ هذا الأب المهيب الودود في سلوكه وأخلاقه قائلاً: أنا فوجئت يا ابني بقلمك. إلاّ أنّي لا استحلُّ تعبك يُراقُ مجاناً. تريد الإستمرار مجاناً: أهلاً وسهلاً وإلاّ فأنتَ حرّ. وكما ترى فليسَ لدي موظفون. فقط البعض من أسرتي يأخذون بيدي.

في تلكَ الأيّام كانَ حصولي على سندويش فلافل في منتهى الصعوبة، كذلك دفع أجرة الفندق، أمّا المواصلات فكانَ يؤمّنها حذائي دونَ أية واسطة.

كان في تلك المرحلةِ صحيفة أمّ الصحف والصحفيين في بيروت وحدها جريدة النهار (التي مرَّ على تأسيسها حتّى اليوم أكثر من ثمانين سنة) الوحيدة التي تدفع لموظفيها والتي تعتبر مؤسسةً عصريةً حقيقيّة. ومن يعمل في جريدة النهار جريدة الدّيك ولو كانَ دجاجة يتبختر أينما كان أكثر من الديك الهندي وألله يستر. أمّا الصحف الباقية فكانت صحيفة الشخص الواحد فالزوجة سكرتيرة والأبن مدير ألخ…. وكلّ ما يأتي من مال يصبُّ في خرجٍ واحد تتقاسمهُ العائلة حسب مراكز القوى. لقد علمنا فيما بعد أنَّ هناكَ صحفاً في لبنان كانت تُطبع على حساب البعض من النافذين في الخليج لا يسمع بها أحد في لبنان، تُطمر في التراب كما البنات في الجاهلية أو تُحرق ويُرسل بعضِ الأعداد منها تمويهاً وتضليلاً إلى مموليها المتربعين في الصحراء. إنّها العبقرية اللبنانية..!

نظراً لهذا الواقع البائس اليائس طلّقتُ هوى الصحافة وهمتُ في البحث عن عملٍ كيفما اتفق لمتابعة الجامعة بشكل متقطّع مؤلم. غامرتُ بالذهاب إلى باريس التي أنقذتني في جميع النواحي. عظمة باريس أنّها تُعطيك الفرصة ولا تستعبدك. عليكَ أنْ تفلح. إنّها لا تقفل الباب بشكلٍ دائمٍ أمامك. قد تعاني كثيراً، ولكنك في النهاية – إذا كان لك ثقة بنفسك – واصل إلى مبتغاك.

بعدما أخذتُ نَفَسَاً في مدينة النور قرعتُ باب “القدس العربي” عروس الصحافة القومية في لندن. أخذتُ أكتب وأكتب بتواصلٍ منذُ أكثر من عشرينَ عاماً، فدعاني بأريحيتهِ المعروفة رئيس تحريرها: “المؤسس” بين المؤسسين وهذا ما غمرني معنويّاً وأعطى كبْري أوكسيجاناً لا يوصف. والحقّ يُقال أنَّ القدس هي جريدة الكثرة الكاثرة التي تكتب لها مجاناً من جميع الأصقاع. أمّا من تدفع إليهم فلا يتجاوز عدد أصابع اليدين على الأكثر.

إنَّ المسؤول عن الثقافة آنذاك الذي رحَلَ (فيما بعد) أول كلمة قالها لي ” دعكَ من السياسة ” وهو الغارق في أكثر من بئر.

لقد لاحظت معظم من ورثوا أو استولوا أو استكرسوا على أبواب الثقافة في الصحافةِ العربية كانوا كاليهودِ في مجال المال. إنّهم كخرزات العقد الواحد يعجز أنْ تلدهم رحِمٌ واحدة “كرحم” غسان تويني العبقري بالنسبةِ لديوكهِ الذين استولدهم وأطلقهم. إنّهم يتكلّمون نفس اللغة ولئن تعدّدت ألوان الصحف التي يكتبون فيها. إنّهم كممثلي التجار في فنزويلا الذين يتنافسونَ في بيعِ ماركاتهم لكنهم ينامون في الفندق نفسه ويسهرون ويسكرون معاً. من يدري قد تكون الشركات التي يمثلونها لنفس الشخص أو الشلّة كما أنَّ أشكال هؤلاء الصحافيين (إلاّ ما ندر) هي قصاص ربّاني لهم فقلما تجد بينهم وجهاً تستأنس بهِ أو يرتاح الطفل لمرآه ويضحك لهُ الرغيف الساخن فلذلك أرادوا الانتقام من كلّ شيءٍ جميلٍ وأصيل.

إنَّ مسؤوليّ الثقافة في صحفنا العربية (بالدور الذي يلعبونهُ) يشكّلون خطراً قد لا يقلّ عن الخطر العسكري الخارجي. ولا غرو في ذلك لأنَّ النظام الغربي القائم في العالم بزعامة أميركا يحتّم خنق الإشعاع في بلاد الإشعاع واستفحام الشمس في عقرِ شروقها لإعادتها معلّبة إلى مطلعها فحماً وزفتاً.

بكلامٍ عادي إنَّ التغيير ممنوع في المنطقة العربية سيما بعدَ بروز أهميّة النفط الذي وحدهُ يعطي النصر والهيمنة لمن يملكهُ أو يسيطر عليه. هذا النفط الذي أكثر من نصفهِ وجِدَ في مدانا العربيّ المنكوب أمنَّ جميعَ الوسائل ومنها الصحافة والثقافة فيها بشكلٍ خاص لكي تكونَ تحتَ تصرفهِ. ولكي تتضح الصورة فما علينا إلاّ إلقاء نظرة كيفَ نزلنا وكيفَ غدتْ الصحافة الغربية أساساً وإلى حدٍّ كبير العالميّة في مخالب الدماغ اليهودي، والعاملون بمعظمهم في الصحافة هم بشكلٍ من الأشكال في أجهزة المخابرات. همهم الطاعة وإشباع الغرائز وارتداء أفضل الماركات فتتوقف أمطار اللّعنات على أشكالهم القبيحة لأنَّ الوجه برأيي هو سفير القلب والروح والوجدان. والبشع الذكي هو من يستغل ذكاءه لتغيير الصورة بصورة أعمالهِ وأخلاقهِ وهؤلاء عددهم ليسَ قليلاً في التاريخ لعبوا أدواراً في منهى الأهميّة. أمّا القبيحون العنيدون فهم الأكثرية المطلقة بدون أي منازع.

بصورةٍ أكثر جلاءً إنَّ هذا النوع من الصحافيين كالطبّاخة في المطاعم فلو دخلت المطعم من مطبخهِ لما دخلهُ زبون.

إنّكَ تستطيع أحياناً أن تطلب منهم ما تشاء: أفئدة. كلى. طائرات. سجادات هوى واستجاباتٍ لا تحديدَ لها على الأرض شرط أنْ تدفع الثّمن فالسّوق هي عرض وطلب.

أخبرتني إحدى السيدات أنها التقت أحد رؤساء التحرير فغازلها، وفي ساعات جعلَ منها رئيسة تحرير مناوبة مما هشّلها في الحال قائلةً: بالكاد ساعتان من الثرثرة اصبحتُ الرقم الثاني في الجريدة… شكراً ووداعاً فأنا عائدةٌ إلى اطفالي الذين هم بحاجة إليّ أكثر من جريدتك الزاهرة بالشوك. وأبواب الله واسعة. كما أذهلني الأستاذ الزميل لامع الحرّ الذي يعمل في الثقافة منذُ أكثر من ربع قرن باستمراريّته وتماسكه وعدم قابليته للتلوّث وهو القائل: إنّكَ إنْ لم تدفع وتدفع فلن يستطيع إسمكَ أن يلمع.

إنّهُ لمنَ الأسهل أن تجدَ اليورانيوم في الربع الخالي من أن تجدَ صحافياً يزيّنهُ الحياءْ والصدق والجدارة. إنَّ هذهِ المهنة التي تعتبرُ الصيد والبحث في جميع الإتجاهات فقط عن الجديد وعن الحقيقة أصبحت مكتب توظيف أو إستقبال إعلانات جاهزة. فيا ويل من يكتب. البريد لا يصل. والموضوع انطرق سابقاً والمستوى غير جدير بمجاورة الآيات الضوئية في هذهِ الصحف الصفراء الناعبة.

قالَ أمامي الكاتب جمال الغيطاني في باريس: لقد وصلني بريد كلّهُ صالح يقتضي نشرهُ خمسَ سنوات. البريد طبعاً كالنهر المتواصل. ولكنَّ “أخبار أدبه” لا تكفي لإحتضان هذهِ الأمواج التي لا تتوقف فهو ينتقي. وهنا الطامةُ الكبرى بالنسبةِ للأجيال الطامحة. معنى ذلك أنَّ هناكَ في العمق نهضةً فكريةً على قاعدةٍ واسعة تخصرها وتختصرها بلْ تخنقها أبواب هذه الصحف الضيقة حتّى على مناقير الحساسين.

في هذا الخصوص أخبرني احد الصحافيين المصريين العمالقة بأنَّ رسائل القرّاء في بعض الصحف البريطانية ترتدي أهمية أكثر من كتابة المحترفين الذين يقبضون.

لقد عاتبت أحد الأصدقاء العاملين في إذاعة مشهورة بباريس قائلاً: لماذا لا تذيع ما نكتب في الصحف في برنامجك، أجاب: يا أخي انا عندي قائمة بأسماء الذين يجب أن أقرأ لهم وهنا لا نستطيع إلاّ ان نقول ما يردّده المصريون: “دقّي يا طبلة”…

لقد واجهت الكثيرين من المسؤولين عن الصفحات الثقافية في الوطن العربي وتكلّمت معهم بلغة أخلاقية وبمنتهى التهذيب منوّهاً أن الباقي هو الأصيل وخير الناس أنفعهم للناس غير أنّي شعرت أن المخارز لا تستطيع إختراق أعينهم المزَقيّة الجافة وأن آذانهم سحلوها بالزّفت الذي جفّ والذي ينقصهم هو البُكم وقلة الفقه كي تتم الآية: صمٌّ عميٌ بكمٌ لا يفقهون…

لقد استطاع أصحاب النوايا الخفية الخبيثة تدمير الشعر العربي الذي هو ديوان وبيوت العرب الصوّتية. هذا الشعر الذي يخترق الآذان مرتسماً على الأعين إغتالوه شرَّ اغتيال ولم يبقَ من العروبة والعربية سوى قرآنها الذي ما زالوا يحفرون تحتَ كل زواياه وأركانه كما يفعل الصهاينة بالمسجد الأقصى. كما أنَّ الكاريكاتور الناطق بشحطاته وخطوطه الرشيق المختصر كالبيت الشعريّ الأجمل الذي يرتسم في العين والقلب منعوه ولم يتركوا سوى ضلالهِ الباهته التي لا تؤذي نملة فلذلك قتلوا ناجي العلي. كما بعض الزعماء نبّهَ الصحف بعدم التعرّض لقوامهِ الجسديّ وقيافتهِ.

إنّ الأقزام من النقاد يردّدون: أيها الشعراء إتركوا الشعر وتوجهوا نحو الرواية كأنّهم لا يعلمون أن كثرة الخادمات المستوردات هي التي أتاحت للسيدات العربيات بملء “فراغهنَّ” من خلال القراءة التي لا ندري مدى جدواها ومدى استيعابهنَّ لها، ومدى تأثير ذلك في خلق روايةٍ عربية ماردة كالرواية الروسيّة أو ما شابه.

إنَّ الساحةَ السياسية كما هي بحاجةٍ إلى أكثر من ربيع وأكثر من صيف وأكثر من حشر فالساحةُ الصحافية والثقافية بحاجةٍ إلى قيامةٍ لا تُبْقي ولا تذر. إنّنا بحاجة ماسّةَ إلى خمسينيات القرن العشرين الخصيبة.

لقد طفحَ الكيل وأصبحَ الغشّ والتزوير في الطعام والسلام والكلام والماء والكهرباء والهواء والصورة والسمع والحجر والبشر. إنَّ الكلمةَ ثدي الأمّة ترزحُ تحتَ أكبر خطر عرفهُ التاريخ حليبها السمّ والدّس والنفاق والفسق والمسخ. وقانا الله من استطالة هيمنتها واكتساحها ومن الشرور التي تجسّدها أمامَ أجيالنا الطالعةِ الحالمة بالعودةِ إلى حيثُ كانَ آباؤنا وأجدادنا أكتافاً ترفع الشمس وتزيدها تجلّيّاً على تجلٍّ وسطوعاً على سطوع في الشرق ونحو العالم. إنّ القلم الحقيقيّ الأصيل كما الله على كلِّ شيءٍ قدير فهلاَّنا سامعون؟.