بوتين القوي وأوروبا الضعيفة

الياس حرفوش (الحياة)

نجح فلاديمير بوتين في فرض موقفه على الدول الأوروبية التي تحاول التفاوض معه على مخرج للحرب التي أشعلها في أوكرانيا. وبصرف النظر عن نتائج القمة التي عقدت أمس في مينسك، عاصمة جارته بيلاروسيا، والتي جمعته إلى فرنسوا هولاند وأنغيلا مركل والسيء الحظ رئيس أوكرانيا بيترو بوروشينكو، استطاع الرئيس الروسي أن يفرض على المفاوضين الشروط التي تناسبه. إذ، مهما تكن التسوية التي يمكن التوصل إليها، فإنها ستؤدي إلى حرمان حكومة كييف من السيادة الكاملة على أجزاء واسعة من أقاليمها الشرقية، وستترك النار تحت الرماد، ورقة في يد الزعيم الروسي، يستطيع استخدامها في أي نزاع مقبل لابتزاز القادة الغربيين.

نجح بوتين في ذلك نتيجة قدرته على تحدي الإرادات الغربية. اختبر بوتين القوى الغربية أكثر من مرة. ووجد أنها لا تستطيع الدفاع عن مواقفها أو حماية مصالحها. حصل ذلك في جورجيا ومولدافيا، ثم في شبه جزيرة القرم في العام الماضي. استخدم الخداع واستغل المشاعر الدينية والولاءت العرقية، وخَدَمته القوى الغربية بعجزها عن مواجهته. وكرّس بوتين قدرته على مناكفة الغرب من خلال تدخله في أزمة سورية ضد مصالح شعبها، وكانت نتيجة هذا التدخل هي حرب الاستنزاف الطويلة التي كلفت حتى الآن عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى وملايين المشردين.

لهذا يأتي إعلان الرئيس الأميركي عن استعداده لتقديم مساعدات عسكرية لحكومة أوكرانيا متأخراً جداً. فحتى لو التزم أوباما بوعده، وهو نادراً ما يفعل، فإن بوتين قادر على تسليح حلفائه في شرقي أوكرانيا بما هو أكثر من ذلك، بل إنه وصل في الأيام الأخيرة إلى حد التهديد بحرب عالمية ثالثة أو «بما لا يتصوره الغرب»، كما قال أحد مساعديه!

جاء بوتين إلى الكرملين مدفوعاً بالرغبة في الانتقام من انهيار الاتحاد السوفياتي. وبدل أن ينظر في الأسباب الحقيقية لهذا الانهيار، المتصلة بتوق الشعوب التي كانت خاضعة لهيمنة موسكو إلى الحرية، وبعجز اقتصاد الدولة عن تمويل توسّعها الامبراطوري، فقد اعتبره نتيجة للتدخل الغربي في الشؤون الروسية، وأراد تصحيح التاريخ من خلال استعادة النفوذ القديم للقوة التي كانت عظمى، لكنها تراجعت أمام تقدم المشروع الليبرالي الغربي في دول أوروبا الشرقية.

في مؤتمر الأمن الذي عقد مؤخراً في ميونيخ، لم يتردد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف في إبداء أسفه على إعادة توحيد ألمانيا. لم يكن ذلك الكلام فقط من قبيل الوقاحة المفرطة واحتقار مشاعر الألمان الذين يدعمون وحدة بلادهم، بل كان تعبيراً كذلك عما يخالج القيادة الحالية في موسكو من مشاعر حيال الخريطة الأوروبية الجديدة التي قامت بعد انهيار ما كان معروفاً باسم «الكتلة الشرقية».

من الصعب فهم ما يجري في أوكرانيا خارج هذا السياق. وما أعلنه الرئيس الأميركي باراك أوباما ونائبه جو بايدن في الأيام الأخيرة من أنه يجب ألا يُسمح لروسيا بإعادة رسم خريطة أوروبا هو تحذير في محله، لكنه تحذير متأخر، لأن فلاديمير بوتين فعل ذلك فعلاً، عندما ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي … ولم يحصل شيء.

تمضي الدول الأوروبية في مشروعها الليبرالي الذي يطمح إلى تجاوز الخلافات العرقية والدينية بين مكوناتها. ويمضي بوتين في استغلال هذه المشاعر لتفكيك ما يستطيع من دول موحّدة. هكذا يتلاعب بعواطف من يتكلمون الروسية في الدول المجاورة لتحريضهم ضد مواطنيهم، ويتذكر فجأة (وهو الشيوعي والملحد القديم) ديانته الأرثوذكسية، فيسعى إلى استغلال عواطف أبناء الطائفة الأرثوذكسية ضد مواطنيهم الكاثوليك، كما يفعل في أوكرانيا.

لكن ما هو أكثر خطراً من كل ذلك أن اندفاع بوتين يضع القارة القديمة على حافة مواجهة عسكرية مدمّرة. إذا نجحت خطة بوتين في أوكرانيا فلن يمنعه شيء من التقدم صوب دول البلطيق، الأعضاء في حلف الأطلسي. وعندها لن يستطيع الغرب البقاء عاجزاً ومكتوف اليدين.

قرأنا في التاريخ الأوروبي عن مهادنة القادة الغربيين للمشروع النازي الذي استفحل خطره وقاد أوروبا إلى الدمار. والخوف أن تجر المهادنة الحالية إلى زلزال مماثل.