الفشل الناجح في جنيف 2: ليس مؤتمراً… إنه مسار

جهاد الزين (النهار)

في نمط الإدارة الروسية للتفاوض حول سوريا من الواضح أن موسكو كانت متّفقة مع الطرف الأميركي في إرادةٍ واحدة قرّرت أنه من الأنسب – من موقع حساباتهما- أْنْ “يُعطى” موقع المعارضة السورية في جنيف 2 للمملكة العربية السعودية بل أن “يُعطى” جنيف 2 إقليميّاً للمملكة العربية السعودية.

على الأرجح بل الأكثر احتمالا (ومنطقيّةً) أن تكون هذه الإرادة جزءاً من مسار جرى فيه “خروج” إيران من ذلك “المؤتمر” بالسيناريو “الاشتراطي” الذي شاهدنا والذي نفّذته إيران هادئةً لا غاضبة كأنها موافقة عليه ضمنيّاً!

عبّرت “الإرادة” الروسية الأميركية عن دعم هذا التظهير السعودي لجنيف 2 ليس فقط بإخراج ابتعاد توافقي مع إيران لإيران، بل أيضا في الدور الذي أُعطِي للسيد أحمد الجربا ولاستبعاد “معارضة الداخل” وهي عمليا ما يمكن اعتباره “جماعة روسيا” داخل موزاييك المعارضات السوريّة.

لهذا السبب ولغيره تبدو معظم “معايير” النجاح والفشل في تقييم مؤتمر جنيف2 متسرّعة لأن جنيف الأزمة السورية هو مسارٌ وليس مؤتمرا. مسارٌ طويلٌ من الأزمات لا من الحلول يُراهَن في اللعبة الدولية الإقليمية أنها ستنتِج وتُنضِج وقائعَ ومعطياتٍ لا يمكن بلورتها بوضوح حاليا. لا لأن الصراع معقّد وضارٍ فحسب بل لأن المستويات المطروحة فعليا للبحث لا يمكن بتّها إلا بشكل بطيء ومركّب.

بين مهمات “جنيف” خلق طبقة سياسية سورية جديدة من هذا المزيج المدني لشخصيات معارضة “فردية” الحضور والعلاقات. حتى المعارضات العراقية التي كان يجري “تدريبها” وتحضيرها في التسعينات من القرن المنصرم بعد حرب الكويت حتى سقوط صدام حسين عام 2003 ورغم نقص خبرة العديد من شخصيّاتها إلا أنها كانت أنضج تنظيميا وجماعيا بوجود الخبرة الكردية العريقة وخصوصا حزبيها السياسيين العسكرييّن الحزب الديموقراطي (البارازاني) والاتحاد الوطني (الطالباني) وعلى الجهة المسلمة الشيعية “حزب الدعوة” المولود وبصلابة تنظيمية وخبرة عنفية أيضا منذ نهاية الخمسينات ناهيك عن الخبرات ولو الجديدة التي اكتسبتها تنظيميا المعارضة الشيعية في ظل النظام الإيراني الجديد والأهم هنا هو “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” المولود من رحِم النكبات التهجيرية للشيعة العراقيين إلى إيران في حرب الخليج الأولى وفي قيادة آل الحكيم ومساعدة “القابلة” الإيرانية.

باستثناء “الإخوان المسلمين” السوريين وتاريخهم التنظيمي الجدي لا مواصفات مشابهة في تركيبة المعارضات السورية تماثل المعارضات العراقية في مرحلة استعدادات هذه الأخيرة قبل 2003. مع ذلك في لندن وبيروت، على ما نذكر، كانت المعارضات العراقية باستثناء التنظيمين الكرديّيْن الطويليْ الباع في سياسة المنطقة والنظام العراقي واللذّيْن بدآ مبكرا بعد 1992 وطردِ قوات التحالف الدولي لقوات صدام حسين من شمال العراق الذي تلا طردَها من الكويت… كانت هذه المعارضات العراقية، لاسيما العربية منها سنّيّةً وشيعيّةً، تبدو وكأنها تتعلّم ممارسة السياسة للمرة الأولى مع كل ما يرافق ذلك من “مراهقة” وتسرّع وعجز و”انقطاع” مديد عن الداخل.

لم تكن صورة العراق يومها صورة حرب أهلية منفجرة. كان النظام يسيطر على كل المناطق العربية باستثناء الشمال. اليوم لا يملك النظام وحده مقاليد الأرض وإن كان يحتفظ بمعظم المدن الكبيرة وعلى رأسها العاصمة. غير أن اللعبة الدولية الإقليمية “نَعَفَت” المعارضة من حيث نشوء قوى جديدة من نوع ليس واضحا أي “قاعدة لعبة” سيخضع لها داخليا. بينما “الإخوان المسلمون”، الحزب الحقيقي الوحيد في تركيبة المعارضة التقليديّة التي (كان؟) النظام يحسب حسابا “بنيويا” لها، يواجهون مشكلة التيارات الجديدة الأصولية ويملكون فعالية في تركيبة الدياسبورا المعارضة اكثر مما بات لهم على الأرض. طبعاً هي تركيبة متّصلة بعمق المجتمع السني السوري الذي

كانوا فاعلين في بعض طبقاته الوسطى ولكن السياسة الإستئصالية التقليدية للنظام وضعتْهم خارجه…
دعوني أستدرك بسرعة هنا أنني كمراقب لستُ مخدوعاً كثيرا بصعوبة معالجة ضخامة كل المشهد العسكري الميليشياوي الأصولي القائم على الأرض في سوريا رغم كل هوله إذا استمر. تصوّروا بكل بساطة- نعم بكل بساطة – لو أن الحكومة التركية اتخذت قرارا صارما بإقفال حدودها مع سوريا ومنع أي تواصل للميليشيات المعارضة… كم يستطيع الوضع الحالي من إدلب إلى الرقة مرورا بحلب أن يستمر في حالة نضج قرار دولي بإنهاء وجود التكفيريين غير المسيطَر عليهم (لأن هناك تكفيريّين مسيطَراً عليهم وليسوا أكثر من أدوات مخابراتية لدول قريبة وبعيدة)؟ لا أظن في حالة وجود قرار دولي إقليمي ضمن تسوية جادة أن الوضع التكفيري والميليشياوي في شمال سوريا الشرقي والغربي يستطيع “الصمود” أكثر من شهر أو شهرين. طبعا من الحدود الأردنية الأمر أيضا أسهل في حال وجود القرار.

إذن المشكلة ليست الوضع التكفيري في العمق… إنما في إنتاج تسوية.

جنيف على مدى سنوات سيحاول أن يحل مشكلة سوريا على ثلاثة طوابق متداخلة لمن يريد توصيفا غير ساذج للوضع الرهيب:

1 – داخلياً: ما هو وضع العلويين في الصيغة السورية الجديدة أوّلاً، وليس ما هو وضع الرئيس بشار الأسد أوّلاً، لأن توضيح وضع العلويين يجعل خروج الأسد نتيجة وليس السبب رغم كل أهمية آل الأسد والتحالف الحزبي العلوي المتعدد الطوائف الذي يقودونه… وهذا بحث مهم يلفت نظري أن أحداً من المفكرين السياسيين السوريين المعارضين لم يدخل فيه جديا. وبالتالي ما هي صيغة سوريا الجديدة وأي نخبة “جديدة” ستديرها: فدرالية “عراقية” معلنة؟ فدرالية لبنانية غير معلنة (وأسوأْ)؟ حكم “مركزي”؟ وأي مزيج نخبوي مناطقي في دمشق: دمشقي، حلبي، طرطوسي، درعاوي، ديرزوري إلخ؟ يليه بالأهمية وضع الأكراد (نرجو أن يكون قد بقي مسيحيّون ليشاركوا بما يستحقّونه كجماعة عريقة جدا في التكوين السوري؟).

2 – إقليمياً: ما هو وضع العلاقة السورية مع إيران أي ما هو وضع إيران؟ وبالمقابل ما هو وضع السعودية في التركيبة السورية التي اكتشف رجب طيّب أردوغان على ما أعتقد أنه كم كان طموحا (وحتى ساذجا على هذا الصعيد) في اعتقاده أنه بعد سقوط النظام سيرث إيران في سوريا وإذا بالصراع الفعلي هو بين السعودية وإيران على المرتبة الأولى الإقليميّة وليس تركيا وإيران في سوريا.

3 – دولياً: أية صيغة للنفوذ الروسي الاستراتيجي في سوريا سيقبل بها أو لا يقبل الأميركيون “المنسحبون اللامنسحبون”؟ وهذا المستوى الثالث الدولي علينا أن لا نستهين بعمقه الاستراتيجي الممتد مباشرة من طرطوس إلى كييف مرورا بأرمينيا وتدعمه مصلحة جديدة صينيّة متعددة الجوانب.

لذلك جنيف ليس مؤتمرا. إنه مسار… بما فيه جنيف 8 أو 9 أو أكثر.

اقرأ أيضاً بقلم جهاد الزين (النهار)

الموسيقى… وإيران

قانون “جاستا”: النهاية الرابعة للشرق الأوسط القديم

المدينة الأخيرة في لبنان

مائة عام على “روسي ليكس”

أوروبا ضحية انهيار سايكس بيكو

الشرق الأوسط ما بعد “ذي أتلانتك”…

النفط الكردي الغزير في إسرائيل

صُنّاع قرار وصُنّاع نقاش

أيٌّ منْ وجهَيْهِ هو تاريخنا الآتي؟

رسالة إلى الاتحاد الأوروبي: أنتمْ أيضاً في فخِّ الانهيارات العربية

تأملات في أطروحة كيسنجر الجديدة: “الشرق الأوسط عاجز عن تحقيق الاستقرار بنفسه لنفسه

من هي مافيا متحف الموصل؟

“داعش” في نيويورك أقوى ممّا كانت تعتقد الديبلوماسيّة المصريّة

قراءة في نصِّ “استراتيجيّةِ الأمن القومي الأميركي” للعام 2015

صورة الشرق الأوسط الجديد في صيدا وطرابلس وصور

فلسطين تموت عربياً وتولد دولياً

عن بلادٍ كانت تُسمّى سوريا والعراق

إسرائيل والانهيار السوري: الطيور بلا أقفاص

إسرائيل الدولة الوحيدة المتماسكة في المشرق

عن أكاذيبنا الجَماعيّة عام 2013