سيناريوات الحرب والسلام بين واشنطن وموسكو وطهران

سليم نصار (الحياة)

كانت المسألة السورية هي الموضوع المهيمن على جميع المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي جون كيري قبل اجتماعه بنظيره الروسي سيرغي لافروف وبعده.

ومع أن لقاءهما في برلين لم يكن أكثر من تمهيد لمؤتمر روما، إلا أن حديثهما المطوَّل أمّن لهما فرصة المصارحة وتبديد الهواجس والشكوك.

الوزير كيري طمأن الوزير لافروف إلى رفض الرئيس باراك أوباما تسليح المعارضة السورية. وكرر أمامه ما أعلنته واشنطن من أن قرار الرئيس جاء مخالفاً لموقف وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون وزملائها: وزير الدفاع ليون بانيتا وقائد القوات المسلحة الجنرال مارتن دمبسي ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) ديفيد بترايوس. وكان هؤلاء قد تقدموا باقتراح يقضي بتوفير أسلحة للمعارضة السورية، والسماح للمقاتلين بفترة تدريب على أرض الولايات المتحدة.

الناطق باسم البيت الأبيض جاي كارني نقل عن الرئيس أوباما رفضه لاقتراح معاونيه، ومعارضته تسليح جماعة الائتلاف السوري برئاسة معاذ الخطيب. كذلك كرر أمام الإعلاميين تأكيد الرئيس على ضرورة إيجاد معالجة ديبلوماسية تنهي مخاطر العنف والعنف المضاد.

ويبدو أن الوزير كيري حرص في اجتماع برلين على نقل وجهة نظر الرئيس إلى الصحف الأوروبية، كجواب على زعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الربيع العربي هو صنيعة الاستخبارات الأميركية (سي آي أيه). وبحسب رؤياه، فان بلاده تضررت اقتصادياً من ثورات بلدان عربية صديقة لم تستفد من تفكك أنظمتها سوى إسرائيل والتيارات الشعبية المتطرفة.

انطلاقاً من هذه القناعة، يرى بوتين أن علاقته الوثيقة مع النظام السوري، الذي سلحته موسكو ورعته مدة أربعين سنة، تفرض عليه عدم السماح للدول الغربية بأن تنفرد بحل الأزمة السورية. وهو يرى أن هذا التفرد سينعكس بشكل سلبي على الدور الذي يعده لبلاده في عهده. أي دور مواجهة جدار الأطلسي في منطقة أوروبا الشرقية سابقاً… ودور البقاء في قاعدة طرطوس البحرية كونها القاعدة الوحيدة لروسيا على المتوسط… ودور المستفيد من بيع الأسلحة للدول المعادية للغرب مثل سورية وإيران.

مطلع هذه السنة، بدأ الحديث عن احتمال استخدام أسلحة كيماوية من قِبل قوات بشار الأسد الذي تحاصره المعارضة. وذكِر في حينه أن قوات تركية – أوروبية قد تتدخل عسكرياً لمنع نظام الأسد من الإقدام على هذه العملية.

وفجأة، أعلنت روسيا عن القيام بمناورة عسكرية مشتركة مع سورية، بدأت في 22 كانون الثاني (يناير) واستمرت حتى آخر الشهر. ووصفت موسكو تلك المناورة بأنها الأضخم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. كذلك وصلت السفن المشاركة من ثلاثة مواقع بحرية مختلفة: البحر الأسود وبحر البلطيق والمحيط الشمالي. واشتركت في هذه العملية 23 سفينة حربية تحمل وحدات صاروخية تساندها غواصتان إحداهما نووية والأخرى على الديزل، إضافة إلى سفينتَيْ الإنزال الكبيرتين «فيلتشينكوف» و «ازوف.» وقد أشرف على تلك المناورة رئيس الأركان الذي اهتم بإخراج 77 موظفاً من الممثلية الروسية في حلب، حيث نقِلوا بسبب الوضع الأمني إلى بلادهم عبر لبنان.

وصرح رئيس الأركان في حينه أن الهدف من حشد تلك القوة البحرية في شرق المتوسط يعود إلى الأهمية الجيو-سياسية التي توليها روسيا إلى ميناء طرطوس، حيث قاعدة الإمدادات لكل الأسطول.

ويرى المراقبون أن المناورة الضخمة التي قامت بها روسيا كانت تحمل أكثر من تهديد لتركيا. خصوصاً بعدما تبين لها أن أنقرة تستعد لوراثة نظام آل الأسد، وأن الصواريخ التي نشرها الأطلسي على حدودها الشرقية لم تكن أكثر من وسائل ردع تُستخدم عند الحاجة.

في هذا السياق، يمكن الاستنتاج أن القوة الحربية الروسية وظفت لتحقيق هدفين: الأول – حث الولايات المتحدة على التفاهم معها حول موضوع التسوية في سورية. شرط أن تدفع واشنطن الثمن قبول مشاركة بوتين في الحل الذي يحمله أوباما أثناء زيارته المرتقبة للمنطقة.

ثانياً – في حال فشلت التسوية المطلوبة مع الغرب، أو رفضت المعارضة السورية قبول الحل الذي يبرئ بشار الأسد بعد سقوط أكثر من سبعين ألف قتيل وتدمير أهم المدن… ففي نية بوتين خلق الظروف الملائمة لتسهيل انتقال الأسد إلى المنطقة العلوية من خلال حماية خط الشاطئ وتأمين الردع ضد أي تدخل خارجي. وربما تخوف الرئيس الروسي من هذا المحظور بعدما نقلت دمشق السلاح الكيماوي إلى المنطقة العلوية.

في طريق عودته من زيارة دولة الإمارات، صرح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بأن بلاده لن تسمح بإنشاء كيان انفصالي شمال سورية. وأعرب كذلك عن تخوفه من انتقال النموذج العراقي المفكك إلى سورية بحيث تصله العدوى عبر فسيفساء الأعراق التي يتألف منها المجتمع التركي.

في مناسبة سابقة أعرب الرئيس بوتين عن مخاوفه من دخول سورية في حرب أهلية طائفية لا تنتهي. وكان ذلك عقب صدور تقرير لجنة تابعة للأمم المتحدة، يتحدث بالوقائع عن توتر طائفي بين السنة والشيعة، وعن هلع مجموعات تواجه خطر إجبارها على الخروج من البلاد أو التعرض للقتل. وأدلى بوتين بذلك التصريح بعدما اكتشف أن أحد عشر مواطناً من الشيشان قد قتِلوا وهم يحاربون إلى جانب «الجيش السوري الحر». لذلك توقع أن تمتد ذراع الأصوليين من سورية الجديدة للعبث في أمن روسيا، كما تفعل المعارضة الشيشانية.

بدوره دعا الوزير لافروف إلى ضرورة تنشيط الوسائل الديبلوماسية، لأن سورية – بحسب وصفه – تقف عند منعطف خطير، ربما يؤدي العنف المتواصل إلى تقسيمها. وكان من نتيجة ذلك التصعيد أن استجاب الوزير وليد المعلم لوساطته بإعلان قبول الحوار مع المعارضة حتى المسلحة منها. كما استجاب معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف السوري المعارض، إلى طلب الوزير كيري بحضور مؤتمر روما.

على الطرف الآخر، قادت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون محادثات ناجحة في كازاخستان مع سعيد جليلي، أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني. وعرضت، أثناء المحادثات، تخفيف العقوبات على إيران مقابل وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة في منشأة «فردو» المحصّنة.

وبما أن الهدف الأساسي من زيارة الرئيس أوباما للمنطقة هو البحث عن تسوية مقبولة مع إيران تقنع نتانياهو بوقف الاستنفار العسكري، فقد تلقف جون كيري حصيلة المحادثات ليصفها بأنها «مفيدة كونها تمهد لإرساء الثقة».

أين يصب هذا التفاؤل؟

ذكرت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية أن المفاوضات السرية الأميركية – الإيرانية قطعت شوطاً طويلاً. ومن شروطها وقف التخصيب عند عتبة 20 في المئة مقابل تخفيف العقوبات، ومواصلة تخصيب اليورانيوم للمنشأة المدنية في مقابل الرضوخ لمراقبة دولية.

وترى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إسرائيل تعطي حزيران (يونيو) كمهلة نهائية للحل. والسبب أن هذا التوقيت يسجل بلوغ إيران عتبة التخصيب الذري العالي الذي يخولها حيازة قنبلة نووية.

ويظهر في الأفق السياسي حالياً أكثر من سيناريو: الأول – يقول أن سقوط بشار الأسد يقوّض نفوذ إيران في لبنان، ويخلق أثراً سلبياً على «حماس» في غزة، ويوجه ضربة قاسية إلى سعي طهران لإقصاء مصر وتركيا عن قيادة المنطقة. لذلك يبدو أن انتهاء الحرب الأهلية السورية لصالح الثوار، وحلفائهم الأميركيين، يمثل فرصة مفصلية خطيرة في الشرق الأوسط.

ثانياً – لهذا السبب وسواه ستقرر إيران استباق الضربة الإسرائيلية – الأميركية بتوجيه ضربة استباقية إلى إسرائيل. ولكن في حال استولى الإسلام السياسي على سورية، فان ذلك يمهد لسقوط المالكي في العراق، حيث لطهران النفوذ البالغ.

تؤكد الصحف الألمانية أن الصفقة الأميركية – الروسية قد ظهرت نتائجها الإيجابية عبر البيان الذي صدر عن جون كيري إثر المحادثات التي أجراها مع المعارضة السورية وممثلي دول أوروبية وعربية. وقال كيري أن بلاده تعتزم لأول مرة تقديم مساعدات غير فتاكة تشمل إمدادات غذائية وطبية لمقاتلي المعارضة السورية. وأعرب عن سروره عندما قال أن الولايات المتحدة ستقدم للائتلاف السوري المعارض أكثر من 60 مليون دولار لمساعدته على تثبيت الأمن. وهذا الرقم أقل من ثمن طائرة حربية. ومثل هذا البيان التخديري يؤكد نجاح الصفقة التي أبرمها كيري مع نظيره لافروف في برلين. كما يؤكد تحليل الصحف الأميركية التي ذكرت بأن الوزيرة هيلاري كلينتون لم تكن مريضة، ولكن الرئيس أوباما أقالها مع رفاقها الأربعة لأنهم طالبوا بضرورة تسليح مقاتلي الائتلاف الوطني السوري. وقد اصطدم هذا الطلب مع الموقف المهادن الذي اتخذه أوباما خلال ولايته الثانية. ومعنى هذا أن بشار الأسد سيُكمل مدة ولايته حتى سنة 2014. عندها تكون المعارضة قد أكملت حربها ضده بواسطة دول الاتحاد الأوروبي المؤيدة لتسليحها.

ولكن، هل يُعقل أن تُقدِم أوروبا على مخالفة حليفتها الكبرى الولايات المتحدة؟

هذا ما فعله الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عندما بلغه أن مالي ستسقط وأن «القاعدة» في طريقها لتطويق أوروبا. ولما اتصل بواشنطن حذره أوباما من خطورة التورط في الرمال الأفريقية المتحركة. ولما اتصل ببوتين، الذي أدرك على الفور خطورة الموقف، سأله ما إذا كان بحاجة إلى طائرات لنقل الجنود الفرنسيين إلى الجبهة.

وهذا برهان عملي على انشغال الرئيس الأميركي بمشاكله الداخلية المتفاقمة، وبإصراره على تقطيع السنوات الأربعة مع زوجته ميشال المهيأة لوراثته في مقعد الكونغرس.

السؤال الآن يتعلق بمصير الرئيس الأسد، الذي أبلغ الوفد الأردني الذي زاره بأنه قد يمارس مهنته كطبيب عيون في حال اضطرته الظروف إلى التقاعد من العمل السياسي. ومعنى هذا أنه يتوقع حدوث أمر مجهول ربما يفرضه عامل الزمن. وهو قطعاً يعرف حكاية الحاخام اليهودي والكونت الروسي.

تقول الحكاية أن روسياً ثرياً وقف يستعرض رحيل حاخام مع عائلته من المزرعة التي اشتغل فيها قبل صدور القرار القيصري بإخراج كل اليهود من روسيا. ولما دنا الحاخام من الكونت، سأله ما إذا كان كلبه يتكلم الروسية؟

وسأله الكونت باستهجان: وهل الكلاب تتكلم؟

وهزّ الحاخام رأسه وقال: خلال خمس سنوات، لقنت كلبي اللغة العبرية.

عندئذ استبقاه الكونت مع عائلته، شرط أن يلقن كلبه فن التكلم بالروسية خلال خمس سنوات… وإلا.

وعاد الحاخام مسروراً ليُكمل مع عائلته الحياة التي ألِفها. ولكنه فوجئ بابنه يسأله بارتباك: ماذا تفعل إذا لم يتكلم كلب الكونت؟

ورد عليه بلهجة الواثق: يا بني… بعد خمس سنوات قد يموت الكلب. وقد أموت أنا. أو قد يموت الكونت!