“الأرثوذكسي” .. من “الطائف” إلى عكسه!

د.بهاء أبو كروم (المستقبل)

تفضي القناعة بفكرة القانون الانتخابي المسمى الأرثوذكسي إلى خلاصات مدمّرة في ظل نظام سياسي من المفترض أن يؤول إلى دولة ومؤسسات وطنية وليس إلى مذاهب ومجالس ملّية. ويفضي مجرد طرح الفكرة إلى استنتاجات بأن كل ما بني في إطار الدولة كان مجرد تعايش ذات طابع مسرحي تلعب كل طائفة أو مذهب فيه دور المُستضعف الذي يتربص به شريكه في ذات المشهد. ونحن نتحدث عن دولة عمرها منذ الاستقلال 70 عاماً ومنذ إعلان لبنان الكبير 93 عاماً، وهي دولة قامت في بداياتها على شيء من الميثاقية بين اللبنانيين الذين احتكموا إلى عوامل التاريخ والجغرافيا وقدموا نموذجاً من العلاقات الديمقراطية لا بأس به رغم أنهم صاغوا عملية تشكيلها وفقاً لحاجيات الطوائف، لكن لاحقاً جمعتهم الحاجة إلى بناء تجربة من الفرادة عكست شخصيتهم الوطنية في محيط كانت مآلاته تشخص نحو نماذج من التنميط الأحادي.

لعب الخارج بالنسبة لنا دور الدافع لوحدتنا بالقوة قبل الاستقلال، وعاد ليبرز ذلك جلياً في ثورة الأرز، إلا أنه لعب أيضاً دور العامل على تفريقنا في كل المراحل. وقد “أحسن” اللبنانيون استحضار الخارج في معاركهم الداخلية مرّة لاستخدامه والاستقواء على بعضهم ومرّة أخرى لإلقاء تبعات انقساماتهم عليه عند تفاقم الحاجة إلى الوئام فيما بينهم.
لقد كنا في كل محطة، حتى خلال الحرب الأهلية، نحيل أسباب اختلافاتنا إلى الخارج ونتحدث عن الغريب ودوره المعطّل لوفاقنا، كنا بذلك نترك مساحة ولو صغيرة لإعادة ترميم المشترك فيما بيننا، وكنا نتحدث عن مؤامرة خارجية تهدف إلى تفريقنا وتفتيتنا وشرذمتنا، وإذ بالتفريق والتفتيت والتشرذم ينبع من بنات أفكارنا هذه المرة من دون الحاجة إلى الغريب.!
طبعاً ليس من المحظور تناول الطرح الانتخابي من زاوية تحقيق التمثيل الأصح للمسيحيين، ومن حق المسيحيين في ظل صحوة الطوائف الأخرى أن ينزعوا باتجاه تكتلهم الداخلي، هذا الحق لا يناقش به أحد، لكن من واجبهم أن يفعلوا ذلك في إطار الدولة وهم حريصون عليها والأكثر حاجة إلى دورها الرسالي والتأسيسي، ولو حصل لكانت هذه أسهل الطرق وأنجعها في ظل التهديدات التي تواجه مقومات السيادة الوطنية والتي تنشأ من كل حدب وصوب.
لم يكد يمضي على زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان عدة أشهر طرحت خلالها البطريركية الانتقال من صيغة التعايش المشترك إلى فكرة العيش معاً في البلد الواحد، وهو طرح اندماجي يحمي الوجود المسيحي في المنطقة لكن تناقضه تلك المداولات التي تنطلق من الصرح البطريركي ذاته ولو أنها تشترط التوافق الداخلي حولها.!. فما الذي حصل لكي نشكك بمبررات التعايش بين اللبنانيين، وما هي الحسابات الانتخابية التي تبيح التعاطي مع القضايا الجوهرية بهذا القدر من التكتيك المُفرِط؟
من أفظع الجرائم بحق لبنان هي أن نعود ونلقي باللبنانيين في أحضان الطوائف من جديد، ونضرب مرتكزات الطائف بعدما شخّص هذا الاتفاق علة النظام وأوجد الآليات الكفيلة بتجاوز الطائفية السياسية. وبعدما تعاظمت فكرة الاتحاد الوطني وتحققت انجازات وطنية كبيرة تبعاً لذلك، أهمها الاصطفاف الوطني بوجه الاحتلال الاسرائيلي والحالة الوطنية العابرة للطوائف التي تكفلت بطرد الوصاية السورية.
ومع علمنا بأن القانون الذي صادقت عليه اللجان المشتركة ليس له وظيفة إلا تأجيل الانتخابات أو حسم نتائجها مسبقاً، طبعاً هذا عدا عن وظيفته الإقليمية، وأنه لا يزال من المبكر إصدار الأحكام على متبنيه الذين يذهب بعضهم إلى التنصل منه، إلا أن الضرر المعنوي الذي طاول وجدان اللبنانيين قد وقع، وهذا ينذر بتداعيات ربما تستدعي التوقف عندها خاصة وأنه من الآن فصاعداً ستكون أسقف المعارك السياسية مفتوحة على كل الاحتمالات، فمخطئ من يعتقد أن باستطاعته المغامرة بمستقبل البلد وهو لا شك سيكون أوّل الخاسرين.!