كمال جنبلاط آخر القادة: أضواء جديدة على فكره العربي بشهادة من عايشوه

علاء لؤي حسن

أنباء الشباب

إنه السادس من كانون الأول يطل علينا مجدداً. هذا اليوم كان استثنائياً، ففيه أهدتنا الحياة بطلاً علمنا كيف يكون النضال الحقيقي، فهو من نادى بلبنان العلماني وبدولة المواطنة. غير أن الجانب الذي لا يعرفه البعض الكثير هاجس العروبة بتجلياتها الراقية ورؤيتها الحضارية في ممارسات وشخصية كمال جنبلاط. وهذا ما سنبين بعضاً من ملامحه في هذه الأسطر القليلة. فقد كان كمال جنبلاط عربياً وحدوياً في الصميم، ولكن برؤية المفكر الحكيم الذي ينطلق من الممكن لتحقيق المأمول في مسألة الوحدة العربية. أخبرني والدي نقلاً عن والده الإذاعي المعروف توفيق حسن وكان من الأصدقاء المقربين للمعلم الكبير أن الأخير كان يرى أن الوحدة العربية يجب أن تأتي لا لتلغي الخصوصية القطرية لكل بلد عربي، بل لتوسيع السبيل لها كيما تتكامل مع خصوصيات أخرى لأقطار عربية، أليست هذه هي فلسفة الوحدة التي قامت عليها أوروبا فيما بعد، فيما كان كمال جنبلاط سباقاً لها بعقد كامل، فكم كان بعيد النظر، وهو يحاول أن يوائم بين الحاجة إلى الوحدة وبين الخصوصيات القطرية بحيث لا تتناقض بل تتكامل على حد وصفه لتغني الوحدة بدل أن تنقلب عليها كما حدث فيما بعد بالوحدة بين سوريا ومصر. وعلى هذا الدرب من التدرج نادى كمال جنبلاط – كخطوة أولى – باستحداث “طابع بريدي عربي” موحد في ظل اتحاد بريدي، ومنه إلى حلقات أخرى في النقل البري والجوي وصولاً لفدرالية عربية على قاعدة مادية ومؤسساتية، تماما كما فعلت أوروبا فيما بعد.

جاء هذا فيما فكرة “الوحدة الشاملة الإندماجية” تسيطر على عروبيي الخمسينات والستينات من الذين غلبهم الحماس فطرحوا الأمر على أن الوحدة هي اندماج وانصهار!!. مشككين بأي طرح آخر حال، كل دوغمائي تبسيطي!. وعلمت من والدي أيضاً ونقلاً عن والده الذي كان قريباً من عبد الناصر بحكم موقعه كسكرتير للمكتب الصحفي في رئاسة الجمهورية لأعوام 1962 حتى 1965، أن كمال جنبلاط قد فاتح الرئيس عبد الناصر برؤيته بوصف هذا التدرج حاجة ضرورية للارتقاء بالجماهير من مرحلة الإيمان بالوحدة إلى ممارستها، ويبدو أن الرئيس عبد الناصر اقترب من الاقتناع بهذه الرؤية مسترشداً بتجربته المريرة من الوحدة السورية المصرية، ومعاناته مع أدعياء الوحدة من أحزابٍ تبين بأن مشاريعها الحقيقية لا تتعدى كرسي الحكم في أقطارها!، عابرة إليه على جسر شعاراتها الرنانة.

يوم غاب الزعيم جمال عبد الناصر قال كمال جنبلاط على تلفزيون لبنان بصوت متهدج وعين دامعة: “لو كنا نستحقه لبقي بيننا”. فبعد عبد الناصر تراجعت احلام العروبة بممارستها النظيفة، فانكفأ كمال جنبلاط بواقعيته السياسية إلى خطين دفاعيين، الأول التبشير بعروبة إنسانية واصفاً العالم العربي بـ”السجن الكبير”، حيث القمع وغياب الحريات والممارسات الديمقراطية. والثاني الالتفاف حول “الثورة الفلسطينية” التي باتت آخر خيول العرب! والتي لم تنجُ من تآمرهم عليها بعد أن نبذتها أنظمتهم، فغدا لبنان ساحتها الوحيدة، فيما بات كمال جنبلاط سندها وسيفها وترسها وهي تتعرض للتآمر. وأخيراً جاء اغتيال المعلم آخر حلقات التآمر على القضية الفلسطينية تلاه بعد سنوات الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ونفي “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى ما وراء البحار. وهكذا حتى دخلنا أخيراً النفق المظلم وما زلنا فيه دون أن يبدو في الأفق خيط من ضوء.

(أنباء الشباب، الأنباء)