تاريخنا مغيب وماضينا حاضر/ بقلم د. ايمان مرداس

لفتني حديث للمؤرخ البريطاني هوبزباوم يخاطب فيه العرب قائلًا: “يا معشر العرب لن تفحلوا في استئناف نهضتكم لأنكم ببساطة لا تعرفون الفرق بين الماضي والتاريخ”.

هل التاريخ مجموعة من أحداثٍ وقعت في الماضي تناقلتها الأقلام جيلًا بعد جيل؟ أم أنّ التاريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية كما جاء في مقدمة ابن خلدون؟ وهل نحن فعلًا لا نعرف الفرق بين الماضي والتاريخ؟

يُثير التاريخ نوعًا من الإبهام في تحديد مفهومه، كونه يتناول فضاءين، الأول موروث ذهني ووقائع تناقلتها البشرية جيلًا بعد جيل، والثاني تجارب إنسانية تواكب أفراد المجتمع بهدف فهم حاضرهم واستشراف مستقبلهم. لذا ارتفعت تساؤلات كثيرة لدى العديد من المؤرخين حول مسار التاريخ ومغزاه الحقيقي، البعض اعتبره مجرد أحداث مرت على البشرية، أو خزان لذاكرة الأفراد والمجتعات، والبعض الآخر اعتبره مساءلة لأحداث وقعت في الماضي، للتعمق في دراستها وتحليلها من أجل الخروج بفائدة يستنير بها الإنسان تفيده في عملية التخطيط وتطوير المستقبل، ومنهم من اعتبره عملية التحول والتغيير والانتقال (الصيرورة) من حالة إلى حالة، ودليلًا إرشاديًا لتعزيز مسيرة الدفع الحضاري إلى الأمام.

إذا كان التاريخ هو عملية التغيير التي تواكب البشرية، يستنطق الماضي ليدرك الإنسان عمق الوقائع والأحداث ويهتدي إلى عوامل ارتقائها وازدهارها وأسباب زوالها ودمارها، فلمَ لم يؤثر في تشكيل وعينا ومسار مستقبلنا؟

في نظرة متأملة ومتألمة لواقعنا ندرك أن الماضي بأحداثة وحركته لا زال حاضرًا ومؤثّرًا في تكوين وعينا الفكري، وأنّ تاريخنا مغيّب وماضينا حاضر، غاب عنا التاريخ بغياب الفائدة منه، واضمحل تحت وطأة الصراعات وافتقاد القيم والنظم، وأصبحنا نسترجع ماضينا في كل مناسبة وعلى كل منبر وفق إيديولوجية محددة أو مصلحة معينة، نقزمه إلى حد الاستهزاء به أحيانًا، وننتقي العصور الذهبية منه أحيانًا أخرى، نتباهى ونتفاخر بدورنا في بناء صرح الحضارة الإنسانية، لا لشيء سوى أننا ألِفنا ثبات الأوتاد تحت المطارق.

لا يُخفى على أحد الحضارات الإنسانية التي نشأت في العالم العربي، ودور الكنعانيين والفينيقيين والأشوريين والفراعنة وغيرهم في تقدم البشرية، ولا يُخفى على أحد النقاط المضيئة والمجيدة في التاريخ العربي والإسلامي، وإسهامات علماء العرب في العديد من الميادين العلمية، ففي الوقت الّذي كانت فيه أوروبا تتخبط في ظلمات العصور الوسطى، كنا أرقى شعوب الأرض وصُنّاع الحضارات ، نهل علماء أوروبا من الخزائن العربية العلمية، انكبوا على دراسة إرثنا العظيم، تقدموا بعقل منفتح، وتراجعنا نحن في معارك التنمية والنهضة التكنولوجية. يتحسر عبد الرحمن الكواكبي على تاريخنا العريق قائلًا: “لقد كنّا أرقى من الغرب علمًا، فنظامًا، فقوَّة، فكنَّا له أسيادًا ! ثمَّ جاء حينٌ من الدَّهر لحق بنا الغرب، فصارت مزاحمة الحياة بيننا سِجالًا، ثمَّ جاء الزّمن الأخير ترقّى فيه الغرب علمًا، فنظامًا، فقوّةً “.

لماذا لا نستطيع اليوم تكرار التفوق الحضاري نفسه الذي حققه من سبقنا؟ ولماذا تفوّق الغرب علينا؟

السّبب لأننا وببساطة لا نعرف أن للتاريخ أزمان ثلاثة أهمها المستقبل، فنحن شعوب تهرب من واقعها إلى ماضيها دون أن تملك مفاتيح المستقبل، أو بمعنى أدق كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم “حكومات تعيش في الماضي وأغلبها يصارع الحاضر وقلّة يصنعون المستقبل” ، فالتراجع السياسي ننتج عنه انكماش حضاري واضمحلال إبداعي وتخلف اجتماعي.

إنّ منطق التاريخ يخالف الحياة تحت ركام الماضي، كونه ميدانًا للفكر وساحة للبحث والتحليل والاستقصاء، ونبراسًا للاقتداء به والانطلاق إلى مستقبل أفضل، وإنجاز إنساني يحمل في طياته قيمًا ترفع من معنويات الشعوب وتشحذ هممها لتبني الأوطان التي تحيا على أرضها. من هنا، من الواجب علينا النظر إلى التاريخ بعين البصيرة والعبرة، بعين التحليل والنقد والتعليل، نستلهم منه طاقتنا ونعزز قيمنا وقوتنا، فالأمم التي لا تتعلم من جوهر الحدث التاريخي تفقد شعورها بالمسؤولية، وتعجز عن التعامل مع حاضرها وتطويعه وتطويره لأن حوادث التاريخ تعوزها الحكمة كما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير.

(الأنباء)