الميزان/ بقلم ألحان الجردي

يقول علماء النفس إن الطفل يولد صفحة بيضاء يَطبع عليها الأهل ما شاؤوا من أفكار، لكن هذا الطفل يحمل استعدادات جينية موروثة، ونقصد بالاستعداد، القابلية لاكتساب صفة معيّنة في حال وجود ظروف محفّزة، مثلاً يَرِث الطفل الاستعداد ليكون ذكياً كوالده إذا ساعدته الظروف التربوية والبيئية.

كما يُشير التحليل النفسي إلى أهمية مسألتيّ الحرمان والإشباع الزائد وأثرهما على ظهور الاضطرابات النفسية في مرحلة لاحقة.
بالنسبة للحرمان فهو مصطلح مفهوم بشكل عام، بحيث يدلّ على النقص وعدم تلبية حاجات الطفل الأساسية بكافة أشكالها المادية والعاطفية والاجتماعية، بالتالي فالحرمان من عاطفة الأم وحنانها أو الأب مثلاً قد يولّد العديد من الاضطرابات العُصابية عند الولد لاحقاً كالعدائية والجُناح.

أمّا بالنسبة إلى مسألة الإشباع الزائد، فقد لا ينتبه لها معظم الناس حيث إنها البُعد المقابل للحرمان، وكِلا البُعدين قد يؤدي إلى الاضطراب، والمقصود بالإشباع الزائد هو إعطاء الطفل أكثر من حاجته في كافّة الأمور، انطلاقاً من الماديّ إلى العاطفي، مثلاً فالدلال الزائد للولد يؤدّي إلى شخصية اعتمادية أنانية غير قادرة على تحمّل المسؤولية، قد تصل به إلى الجُناح نفسه الذي أدّى إليه الحرمان العاطفي.

كذلك فالتعلّق الكبير بالأم أو الأب والعاطفة المشحونة وملازمة الطفل طوال الوقت، تؤدي به إلى شخصية ضعيفة – هشّة غير قادرة على الاستقلال وقد تصل إلى ظهور اضطراب “قلق الانفصال”.

إذ يُشير أحد علماء النفس إلى هذا الموضوع من خلال قوله “ضرورة أن تكون الأم جيدة بالقَدَر الكافي”، بمعنى لا جيدة أكثر من اللازم ولا أقلّ من اللازم، ومصطلح الأم هنا ليس محصوراً فقط بشخص الأم بل بمعنى المربّين بشكل عام .

يمكن الاستنتاج من كل ما وَرَد أنه من الضروري وجود ميزان تربوي لدى الأهل وإبقائه متوازناً قدر المُستطاع، فلا ترجح إحدى الكفّتين على الأخرى “العقل- العاطفة”.

قد يُقال أنه لم يكن هناك وجود لمثل هذه النظريات في الماضي، وكانت التربية تأتي بثمار أفضل، يمكن أن يكون هذا القول صحيحاً إلى حدّ ما، ولكن بجميع الأحوال لا بدّ أنه كان هناك في الماضي وجوداً لتوازنٍ ما غير مُدرَك.

لكن اليوم في عصرنا هذا فالتوازن الطبيعي للحياة قد اختلّ، وبالتالي باتَ علينا البحث عن توازن جديد يُلائم الظرف الراهن.

والمنطقيّ في مسألة إعتماد الميزان التربوي أنّه على الأهل أن يكون لديهم هذا النوع من التوازن حتى يتمكّنوا من اعتماده في تربية أبنائهم، بالتالي فالأهل الفاقدون أساساً لهذا التوازن سواء في التفكير أو الانفعال أو التصرّف، لا يمكن أن يربّوا أولادهم إلا من خلال ما لديهم من صفات شخصية.

وهنا يجوز لفت النظر إلى مسألة أنّ الاختصاصي النفسي الخاص بالأطفال، عندما يُعاين طفل لديه اضطراب معيّن يُدرِك على الفور أنه عليه مُعاينة أهل الطفل، فهو يعلم أن اضطراب الطفل مرتبط بشكل أو بآخر بأهله وأسلوبهم التربوي، فالاختصاصي يعلم أنه يتوجّب عليه إرشاد وتوجيه وأحياناً علاج الأهل بشكل غير مباشر حتى يتمكّن من مساعدة الطفل.

وهذه النقطة قد تكون عائقاً في مسيرة مساعدة الطفل، حيث يرفض معظم الأهل التعاون مع الاختصاصي بشكل لاشعوري، وذلك رمزاً لعدم قدرتهم على الاعتراف بأنّ مشكلة الطفل نابعة من خلل واضطراب لديهم على صعيد التعاطي مع الولد.

في الختام تجدر الإشارة إلى ضرورة توعية وإرشاد الأهل والمُربين بكافة الوسائل إن من خلال المدارس أو الجمعيات أو الندوات، إلى مدى تأثير شخصيّاتهم وأفكارهم وانفعالاتهم وسلوكيّاتهم الخاصة على صحة أولادهم النفسية والفكرية والاجتماعية، وذلك كي يُدرِكوا أنهم بحاجة إلى إيجاد ميزان خاص بحياتهم وأسلوب عيشهم وتفكيرهم كي يتمكّنوا من اعتماد تربية سليمة ومتوازنة مع أبنائهم.

(الأنباء)