إتهمها بالجنون وحرمها أولادها .. وهذا هو السبب!

لا يختلف اثنان على أن نسبة الطلاق في مجتمعاتنا ارتفعت بوتيرة مقلقة مؤخراً، وإن كانت الأسباب متعدّدة وتستوجب دراسة معمّقة وتدابير استثنائية من قبل المحاكم المسؤولة عن ابرام عقود الزواج للتأكد من أهلية الثنائي للإرتباط ووعيهما لما يترتّب عليه من حقوق وواجبات وتنازلات مشتركة تقتضيها الحياة الزوجية لصالح هذه المؤسسة العائلية المهدّدة بالتفكّك يوماً بعد يوم.

غير أن سبب طلاق لمى من زوجها لا يتعلّق بخلاف زوجي عادي أو عميق كالذي يمكن أن يعترض أي زوجيْن، بل هو حالة نفسية مرضيّة تعرّضت لها مؤخّراً، وتفاقمت إلى حدّ وجد معه الزوج أن الطلاق هو الحل المثالي لإنقاذ عائلته وولديْه من براثن هذه الأم، التي تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى وحش كاسر يخطط بل لا يتردد عن محاولة قتل نفسه وكل من يتواجد معه في المنزل من أفراد عائلته!

هي اكتئاب ما بعد الولادة أو ما يسمّى بالإنكليزيةPostpartum depression الذي عانت منه لمى بعد ولادة طفلها الثاني، كما قالت في حديث لـ “الأنباء”، مشيرةً إلى أن زوجها “دفع مبلغاً من المال لطبيبها المعالج ليزوّر تقريره الطبّي ويصادق على أنها مجنونة، ما يسمح له بالحصول على الحق في حضانة طفليه، وهذا ما حصل بعد طلاقهما”!

IMG-20170719-WA0096

ليست حالة الطلاق بحد ذاتها موضوعنا ههنا، خصوصاً أن التدقيق في القضيّة أظهر تضارباً في المعلومات بين كلام لمى والأدلة التي استند إليها المحامي الموكل من قبل زوجها، بالإضافة إلى حديث المعالجة النفسية التي رافقتها خلال فترة الطلاق، والتي أكّدت لـ “الأنباء” أن “اكتئاب ما بعد الولادة حالة ذهانية يمكن متابعتها والتخلص منها عن طريق العلاج النفسي، في حين ان الحالة التي تعرّضت لها لمى تخطّت الحالة الذهانية إلى اكتئابعصابي لا يمكن التخلص منه بلا علاج بالأدوية على مدى الحياة، ما يجعل أطفالها بخطر دائم في حال غفلت عن تناول جرعات العلاج اللازمة ليوم واحد او يوميْن مثلاً”!

لمى اليوم بكامل قواها العقلية والنفسية. هكذا لمسنا من خلال مقابلتنا معها على الأقل، كما أن عملها كمدرّبة في مجال يوغا الأطفال وتعليم رقص الباليه لفتيات خير دليل على توازنها النفسي إلى حد كبير.

إلا أن كل امرأة معرّضة لحالة اكتئاب ما بعد الولادة. فما هي؟ كيف يمكن تشخيصها؟ وما هو علاجها؟

تشير الدراسات إلى أن “عشرة إلى خمس عشرة امرأة من كل مئة امرأة، تضع طفلاً وتصاب بهذه الحالة، ويمكن أن يفوق العدد الحقيقى هذه النسبة لأن العديد من النساء قد لا يقمن بطلب المساعدة والتحدث مع الآخرين بأحاسيسهن”.

والمهم معرفته هو أن كل أم قد تصاب بنوع من أنواع الإكتئاب في الأسابيع الأولى من ولادة طفلها. وقد يتجسّد اكتئابها بنوبات بكاء مفاجئة، ورغبة بالبقاء وحدها أو الإنفراد بطفلها، انعدام التركيز، سرعة الغضب والبكاء، قلّة الشهية… لكن ليس بالضرورة أن تكون هذه العوارض دليل على اصابة الأم باكتئاب ما بعد الولادة، بل يمكن أن تكون ناجمة عن التعب الجسدي الناجم عن عملية الولادة نفسها، بالإضافة إلى قلّة النوم وتغيّر المزاج الناجم عن التقلبات الهرمونية، ناهيك عن تغيّر نمط الحياة نتيجة دخول عنصر إضافي إلى العائلة ويتطلّب قدراً كبيراً من الوقت والجهد لرعايته ما يُشعر الأم بحجم المسؤولية. وقد تستمر هذه الحالة طوال الأيام العشرة الأولى بعد الولادة.

IMG-20170719-WA0098

أما حالة اكتئاب ما بعد الولادة، فتلازم الأم طوال أشهر بعد الولادة، وقد تستمر إلى ستة أشهر أو أكثر في حال لم تتلقَّ العلاج المناسب. وتتخطّى هذه الحالة عوارض الإكتئاب الطبيعي لتتطوّر باتجاه سلوك سلبي للأم في رعاية طفلها، حيث تصاب باضطراب نفسي حاد يتلخّص بهبوط الحالة المزاجية، اللامبالاة وعدم الاكتراث، انعدام المتعة، اضطرابات في الشهية وفي النوم، فرط الانفعال أو البطء، التعب أو انعدام النشاط، عدم التقدير الذاتيأو الشعور بالذنب، صعوبات في التركيز أو في اتخاذ القرارات. وفي الحالات الأكثر حدة قد تظهر أعراض أخرى من الاكتئاب بعد الولادة .

وتعتبر الحالة الذهانية التالية للوضع(Postpartum psychosis) الصورة الأكثر خطورة لهذا الاضطراب، إذ يظهر الاكتئاب بصورة مرض الفصام (الانفصام العقلي – Schizophrenia) أو مرض الذهان الهَوَسي الاكتئابي (Manic Depressive Psychosis)وهو الذي يعرف، حديثا، باسم “الاضطراب ذو الإتجاهين” او “الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar disorder)..

فعند ظهور مؤشرات على أفكار انتحارية أو محاولات لإيذاء المولود، من الضروري جدا الحصول على استشارة فورية من طبيب نفسيّ. كما تحتاج إلى هذه الاستشارة الطارئة، أيضا، النساء اللاتي تعانين من اكتئاب حاد يتصف بصعوبة الاتصال مع الناس، المحافظة على النظافة الشخصية ورعاية الطفل. ومن الشائع أن اكتئاب ما بعد الولادة يعاود الظهور بعد الحمل التالي (بنسبة 50% – 100% من الحالات)، والنساء اللواتي تعانين منه قد يصبن باكتئاب لا علاقة له بالولادة (20% – 30%).

 

وتؤكّد الدراسات أن نسبة غير قليلة من الأمّهات اللواتي تعانين من اكتئاب ما بعد الولادة يعود السبب فيه إلى معاناة قاسينها في حياتهنّ قبل الزواج، من زواج فاشل لوالديهنّ، أو عدم تلقي الدعم النفسي الكافي أثناء سن المراهقة، أو عدم ثقة بقدراتهنّ الذاتية علمياً ومهنياً إلى جانب معاناتهن من قلّة الثقة بالنفس.

أما العلاج الأنسب لحالة اكتئاب ما بعد الولادة فهو التدخّل الفوري والسريع من قبل الزوج أو الأهل لإقناع الأم بأنها تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة وبضرورة خضوعها للعلاج. ويعتبر اعتراف الأم بأنها تعاني من هذه الحالة الخطوة الأولى على طريق شفائها!

أخيراً، وبغضّ النظر عن مدى تعقيد الحالات النفسية التي قد يعاني منها الإنسان، أكان امرأة أم رجل، فإن إدراك أهمية العناية بالصحة النفسية، ومتابعتها، وتلقي العلاجات المناسبة للحفاظ على سلامتها، وتخطّي الأفكار التقليدية الرافضة لفكرة العلاج النفسي، يبقى السبيل الوحيد لمحافظة الإنسان على توازنه العاطفي والنفسي الهام والضروري لنجاحه في الحياة.

 

غنوة غازي – الأنباء