الثورة السورية ولعنة الحرب الكونية على ممرات الغاز

تتضح يوماً بعد يوم خلفيات المصالح الدولية التي دفعت كل من إيران وروسيا للتدخل في الحرب السورية والتي جرت معها أو لمواجهتها عدد من الدول الإقليمية القريبة والبعيدة، والتي حولت الثورة السورية التي انطلقت سلمية في آذار 2011، لإسقاط نظام القمع المتمثل بمنظومة المصالح الأمنية البعثية والعائلية القابضة على رقاب السوريين، إلى حرب كونية تتصارع على أرضها الدول الكبرى ودول الجوار الإقليمي والتي يذهب ضحيتها السوريين أطفال ونساء وشيوخ، وتدمر تحت أنقاض صواريخها وبراميلها المتفجرة المباني والمدن التي هُجر من لم يقض نحبه بين الركام من أصحابها في أصقاع الأرض الواسعة.

وإذا كانت وظيفة وسائل الإعلام التركيز علىنقل صور الضحايا والدمار، والاهتمام بسير العمليّات العسكرية والأمنية. فأن ما كشفته التحولات السياسية في علاقات دول الجوار السوري منذ شروع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة تطبيع علاقة بلاده مع إسرائيل، واعتذاره عن إسقاط بلاده للطائرة الروسية فوق سوريا، وما تلاها من تفاهمات وحراك دبلوماسي، ابرز البُعد الجيو- سياسي للحرب السورية ولتدخل الدول الإقليمية فيها، وكذلك الخلفيّات الإقتصادية- المالية للجهات المتورّطة فيها ولمن يقف وراءها.

ولعل ما خرجت به قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان في سان بطرسبرغ من نتائج، حيث بادرت موسكو، ثاني أكبر سوق لقطاع السياحة في تركيا بعد ألمانيا، الى تحرير قيود السياحة التركية. فإن ما أعلنه وزير الطاقة الروسي عزم البلدين بناء خط “السيل التركي” (تركش ستريم) لسوق الغاز الروسي إلى أوروبا يشكل النقطة الأبرز في القمة، بحيث يعتبر الغاز الروسي عاملا حيويا لدعم الإقتصاد التركي. وإعلان مثل هذا الاتفاق يعني أن علاقة البلدين لم تعد تحتمل سقطات أو زلات بل إستراتيجيات تلتزم بالأجندات. ويعني المشروع أيضا، أن المستهلك الأوروبي سيتسلّم الغاز الروسي عبر تركيا، مستغنيا بذلك عن أوكرانيا العزيزة على قلب واشنطن وعواصم القرار الأوروبية.

اردوغان - بوتين

لا شك في ان “تركش ستريم” أو “السيل التركي” يشكل احد اوجه التعاون التركي-الروسي في مواجهة أوروبا. فروسيا تحضّرت منذ مطلع كانون الاول 2014 حين ألغت المشروع الذي كان يمرّ من تحت البحر الأسود عبر بلغاريا إلى جمهوريات البلقان والمجر والنمسا وإيطاليا، وتخلت عنه بسبب موقف الإتحاد الأوروبي الذي يعارض ما يعتبره إحتكاراً من شركة الغاز الروسية “غاز بروم”. وعوضا منه، قررت موسكو مدّ أنابيب لنقل الغاز عبر تركيا من خلال “تركش ستريم” ليصل حتى حدود اليونان، وإنشاء مجمع للغاز هناك تمهيدا لتوريده الى جنوبي أوروبا. وفق خطط المشروع، ستضخّ روسيا في الخط 63 مليار متر مكعب سنويًا، منها 47 مليارا ستذهب للسوق الأوروبية، فيما سيخصص 16 مليارا للإستهلاك التركي.

تستهلك تركيا 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، ومن المتوقع أن تزداد الكمية إلى 72 مليار بحلول العام 2030، وتستهلك 55 % من حاجتها من الغاز الروسي، النقطة الأهم “أن تركيا من أكبر البلدان المستهلكة والمستوردة للغاز، ولا تملك أي مصادر محلية للطاقة، وتعتمد في إنتاج الطاقة على الغاز، من هذه الزاوية نرى أن تركيا تسعى جاهدة منذ سنوات لتكلل نفسها مركزاً عالمياً لتجارة الغاز، عبر تجميع الغاز الآتي من دول آسيا الوسطى ومن المنطقة العربية، من خلال خطوط الأنابيب أو عبر الصهاريج والقطارات، وتصديره إلى أوروبا. فهي اليوم بحكم موقعها الجغرافي نصفها في آسيا ونصفها في أوروبا، ولديها طموح قديم بأن تكون مركز تجميع وتسفير الغاز المنطلق باتجاه أوروبا، والقادم من دول الشرق الأوسط وروسيا واذربيجان وتركمانستان وكافة دول آسيا الوسطى المنتجة للغاز والتي لا تملك اطلالة على المياه الدافئة”.

تركيا ايران

ولعل هذا الاتفاق هو ما دفع بوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف الى زيارة تركيا سريعاً ولقاء نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، وإعلانه عن رغبة بلاده في “أن تكون تركيا الرابط بينها وبين أوروبا في مجال تصدير الطاقة (الكهرباء والغاز الطبيعي)، مشددا على أن العلاقة بين البلدين عريقة وواسعة، وأن الإرادة السياسية متوفرة لديهما لتعزيز سبل التبادل التجاري في مختلف المجالات، ودعم السياحة بتركيا”.

هذا الموقف الإيراني الجديد يستدعي القراءة المتأنية لما ستؤول اليه الأحداث حيث أن أيران التي اندفعت في تقديم الدعم العسكري والمالي للنظام السوري بهدف إجهاض الثورة السورية منذ بداياتها في العام 2011، وقعت مع كل من النظامين السوري والعراقي اتفاقية “خط الغاز الإسلامي” الذي يفترض أن يمر من ايران عبر مياه الخليج الى العراق ومنه الى الموانئ السورية واللبنانية ومنها مستقبلا الى اوروبا، فمشروع “الخط الإسلامي” لا يجعل من بقاء النظام السوري خياراً مهماً بل ضرورة حتمية بالنسبة للجمهورية الإسلامية لتأمين مشروعها الاستراتيجي، ليس فقط من أجل استمرار المشروع في سوريا بل لضمان ايضاً استمرار دور حزب الله السياسي والأمني في لبنان علي المدى البعيد لمد الخط إلي أوروبا مستقبلاً، فإن تحول إيران مسار ربط الطاقة الإيرانية (الكهرباء والغاز) الى أوروبا عبر تركيا، يشكل نقطة تحول مهمة، سيكون لها انعكاساتها على الواقع السوري.

 بعد إقرار إتفاق “كيوتو” سنة 1992، وتطبيق الدول الأوروبية لإجراءات حازمة للحد من تلوّث الجوّ، تضاعف إستهلاك أوروبا للغاز. ومن المتوقّع أن يزداد هذا الإستهلاك بأكثر من خمس مرّات في السنوات القليلة المقبلة، في ظل قرارات بإغلاق العديد من المفاعلات النووية المولّدة للطاقة. وهذا ما فتح شهيّة الكثير من الدول المصدرة للغاز نحو أوروبا، بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لمصالح إقتصادية ولأهداف مرتبطة بالنفوذ السياسي الدولي.

k1

 وفي هذا السياق، توزّع روسيا الإتحادية (التي هي المصدّر الأوّل للغاز في العالم)، كمّيات ضخمة من الغاز السائل تبلغ 420 مليار طن سنوياً، عبر شبكة ضخمة ومعقدة من خطوط الأنابيب تمتد من روسيا مرورا بأوكرانيا وبيلاروسيا إلى مجمل أوروبا الشرقية سابقاً، وصولاً إلى ألمانيا وبلجيكا بواسطة شركة “غاز بروم” الروسية التي تأسّست في العام 1996.

يشكل الغاز فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين سواء من حيث البديل الطاقي لتراجع احتياطي النفط عالمياً من حيث الطاقة النظيفة. ولهذا، فإن السيطرة على مناطق الاحتياطي (الغازي) في العالم تعتبر بالنسبة للقوى القديمة والحديثة أساس الصراع الدولي في تجلياته الإقليمية. ومن الواضح أن الرئيس الروسي قرأ الخارطة جيدا، فسقوط الاتحاد السوفياتي كان بسبب غياب موارد الطاقة العالمية عن سيطرته، لتضخ إلى البنى الصناعية المال والطاقة، ولذلك تعلم أن لغة الطاقة الآتية إلى القرن الواحد والعشرين هي لغة الغاز وهذا ما اعتبره المراقبون السبب المباشر لدخول روسيا الحرب السورية، بعد أن أقفلت أمامه أبواب أوكرانيا وممرات الغاز عبرها، وتعذر بناء خط الغاز البحري نحو المجر، فأدرك أن تركيا هي المعبر الجديد للطاقة النظيفة الى أوروبا، وسوريا هي الحلقة الأضعف في المواجهة ونقطة الإرتكاز الجديدة للمبادلة.

غاز بروم

بعد إكتشاف الغاز بكميات هائلة في حقول شرق البحر المتوسط وخاصة في حقل تمار البحري الواقع على بعد 90 كيلو مترا مقابل سواحل حيفا، والذي تقدر احتياطيات الغاز فيه بنحو 284 مليار متر كعب، أصبحت اسرائيل شريكا مهما في مصادر الطاقة العالمية، وقد نصحها الخبراء الأمريكان بأن “أسهل طريق بالنسبة لها لبيع ثروتها الطبيعية إلى الخارج هو بناء خط أنابيب مائي إلى تركيا ليلتقي مع الخط القطري بحيث يتوجه الأثنان بعدها إلى العمق الأوروبي”، وهنا يلعب الغاز أيضاً دوراً أساسياً في إعادة تطبيع العلاقة بين تركيا وإسرائيل، حيث تشكل تركيا أقرب نقطة لإنشاء خط غاز جديد يمتد من الحقول الإسرائيلية شمال فلسطين إلى مرفأ مرسين في تركيا (فقط 530 كلم متر) وهو الخط الأقصر والأوفر لها، وبالتالي من خلال إلتقاء المصالح حول الطاقة، انطلقت عملية وضع الخطط التنفيذية لخط الأنابيب هذا الذي ينطلق من حقل لفيتان باسرائيل وصولاً الى مرفأ مرسين بتركيا، تأخذ منه حاجتها المحلية، وتصدر الباقي إلى اوروبا”.

وبالمقابل يزيل خط “تركش ستريم” أو “السيل التركي” من التداول، الخيار السوري كنقطة تقاطع لغاز الشرق نحو الغرب، ما يبرّئ روسيا نظريا من مصالح لها علاقة بسوق الغاز في أجندتها السورية، وينقذ تركيا من قلق على ملف بهذا الحجم ضمن حساباتها في الصراع السوري. وهذا يصبّ أيضاً في بوابة التقارب التركي -الإيراني والروسي- التركي، والتركي –الإسرائيلي في ورشة مصالح مشتركة لها علاقة بسوق الغاز على انقاض الشعب السوري ومدنه المدمرة.

————————–

(*) فوزي ابو ذياب