حل القضية الكردية في تركيا يجعل المنطقة تستقرّ

عبدالباسط سيدا (الحياة)

كان الكرد يأملون بأن يحظوا بدولتهم المستقلة بعد الحرب العالمية الأولى، أسوة بغيرهم من شعوب المنطقة. وقد عملوا من أجل ذلك، وضحّوا كثيراً من خلال ثوراتهم العديدة. لكن الحسابات المصلحية للقوى الدولية المهيمنة حينذاك (بريطانيا وفرنسا)، وتفاعلها مع مساعي القوى الإقليمية (تركيا وإيران)، أسفرت عن تقسيم جديد للكرد أرضاً وشعباً بين الدولتين الناشئتين: سورية والعراق، بالإضافة إلى تركيا وإيران.

وجاءت الأيديولوجيات القومية التي هيمنت على العالم والمنطقة حينذاك لتعمّق الهوة، وتدفع بالقوميات التي حصلت على كيانات سياسية نحو تبني سياسة قوموية متشددة هدفها إلغاء الوجود القومي الكردي.

ويُنسب إلى مصطفى كمال مؤسس تركيا الحديثة، أنه كان يتفهّم التركيز الإنكليزي المصلحي على ولاية الموصل، لجهة الاستحواذ على النفط الواعد يومها. لكنه في الوقت ذاته كان يعبّر عن خشيته من أن يأتي يوم يصبح فيه كرد العراق المركز المحرّك للفكر القومي الكردي، فيفسدون عليه مشروعه المنكر لأي وجود قومي للكرد في تركيا، والمُصرّ على صهرهم عبر سياسة تتريك قاسية. ولم يكن النظام الشاهنشاهي في إيران بعيداً عن هذه التوجهات، معتبراً الكرد مجرد امتداد للفرس.

أما في سورية والعراق فجاءت الأيديولوجيات القومية، بخاصة في عهد البعث، لفرض لون واحد على واقع متعدد. فكانت الجرائم الكبرى للبعث في العراق، والاضطهاد المزدوج للبعث في سورية، والتزوير والتزييف في حقائق التاريخ والجغرافيا عبر المناهج الدراسية ووسائل الإعلام والديماغوجيا الحزبية.

والآن، وبعد مرور نحو مائة عام على انتشار الأيديولوجيا القومية في المنطقة، وبناء على المآلات التي تمخضت عنها، لا بد من إعادة النظر في ماهية المشروع القومي، ومدى انسجامه مع خصوصية منطقتنا، وإمكانية تطبيقه عليها.

أما بالانتقال إلى الواقع العملي، فيبدو حل القضية الكردية في تركيا الخطوة الأهم في طريق تحقيق التوزان والاستقرار في المنطقة. فأسلوب معالجتها يحدد إلى مدى بعيد الخطوط العامة لتوجّهات السياسة الكردية، كما يؤثر في الوقت ذاته في مواقف القوى الإقليمية المعنية بهذه القضية وتطوراتها.

وقد عمل حزب العدالة والتنمية عند تسلّمه الحكم على مقاربة هذه القضية بعقلية منفحتة نسبياً، وتمكّن من تجاوز الكثير من الخطوط الحمر، ما مهّد الطريق أمام معالجة جدية لهذا الملف الشائك المعقّد، وكان إطلاق العملية السياسية مع حزب العمال الكردستاني بهدف الوصول إلى حل سلمي عادل، ما ينعكس ايجاباً على وضع الكرد في سورية والعراق، ويؤدي من دون شك إلى استقرار سورية والمنطقة بصورة عامة. لكن النظام الإيراني، بالتنسيق مع حليفه السوري، عمل بصورة حثيثة على مصادرة احتمالات نجاح المباحثات السلمية تلك، لخشيته من تأثير نجاح كهذا في أوضاع كردستان ايران التي تضم نحو عشرة ملايين نسمة يعانون أسوأ الظروف نتيجة الاضطهادين القومي والمذهبي.

وفي اكثر من لقاء مع المسؤولين الأتراك على أعلى المستويات، أكّدنا أهمية وضرورة إعادة النظر في التعامل مع الملف الكردي في المنطقة. فعوض التعامل مع الكرد كأنهم مشكلة، يُفترض التعامل معهم كجسر للتواصل بين شعوب المنطقة كلها. وعملية كهذه تزيل الهواجس، وتعزّز الثقة وتساهم بفاعلية في تحقيق السلام والاستقرار انتقالاً الى التركيز على التنمية التكاملية، وتوفير فرص العلم والعمل بما يحصّن المجتمع ضد النزعات الإرهابية.

لكن الذي حصل أن القوى المتضررة من السلام والاستقرار تمكنت قبل أشهر من تفجير الأوضاع مجدداً بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، وتسبب ذلك بوقوع الكثيرين من الضحايا الأبرياء من الأتراك والكرد، وبتخريب الممتلكات وتوتير الأجواء. كما أكدت مجدداً العمليات الإرهابية في العديد من المدن التركية خطورة الاستمرار في التوجه الحالي المتشدد من قبل الجانبين.

صحيح أن القيادة العسكرية الحالية لحزب العمال الكردستاني متحالفة مع النظام الإيراني، وتنسّق معه ومع النظام السوري في كل شيء، لكنْ لا يمكن في جميع الأحوال لدولة إقليمية مهمة كتركيا أن تبني سياستها على ردود الأفعال، وتتنصّل من التزاماتها تجاه مواطنيها الكرد الذين يزيد عددهم عن العشرين مليوناً، بذريعة أن حزب العمال أفسد خطة السلام. فالحكومة التركية مطالبة بحل القضية الكردية بعد الاعتراف بوجودها، وهناك حاجة ملحة لأن تقدّم أنقرة تصوراً واقعياً مقنعاً حول القضية المعنية، ما يعزز مواقع أنصار الحل السلمي ضمن العمال الكردستاني، وهم كثر. كما يحرج القيادات العسكرية في الحزب المعني التي تستند إلى تحالفاتها الإقليمية، وإلى ما تمارسه من دغدغة للمشاعر الكردية في ظل التردد والحيرة وعدم الوضوح من جانب حزب العدالة.

الأمور لم تخرج بعد عن نطاق السيطرة. ولا بد من التعامل المسؤول والجريء مع الملف، واحتمالات النجاح كبيرة ومشجعة. أما العودة إلى السياسة القديمة عبر التنسيق مع الجانب الإيراني لمواجهة «المشكلة الكردية»، بخاصة في سورية، فستكون كارثة على الجميع.

* كاتب وسياسي سوري