هل يريد البعض حرباً أهلية جديدة بين اللبنانيين؟

د. محمد شيا

 

هل يريد البعض حرباً أهلية جديدة بين اللبنانيين؟ الجواب بالتأكيد، لا. هل يسعى البعض إلى فتنة طائفية جديدة في لبنان؟ الجواب على الأرجح، لا. هل يقود الخطاب الطائفي العلني للبعض، ومن دون أن ينتبهوا لذلك، إلى توتر طائفي، وربما إلى أكثر من ذلك؟ الجواب نعم.

نعم، إن خطاب البعض الطائفي الشكل والمفردات والعالي التعبئة، وبمعزل عن مضمونه، ينطوي بالإضافة إلى المفردات الجلية على إشارات وإيحاءات وتضمينات وإيهامات وصور واستدعاء لمظلوميات دينية كفيلة بنبش القبور واستحضار “الشيطان” الطائفي، وتزيين محاسنه وفوائده وجعله مرغوباً، بل مطلوباً، بل الطريق الوحيد لتحصيل “الحقوق” الطائفية.
في المضمون. هناك حقوق منقوصة لهذه المجموعة من اللبنانيين أو تلك، نعم بالتأكيد. كان الأمر كذلك دائماً، وسيبقى كذلك، ما دمنا نتصرّف كأننا في ‘دكّان’ وليس في وطن. وهي كذلك طالما أن الوظيفة العامة باتت تقاس في لبنان بالآلة الحاسبة وجداول الجمع والطرح واللون الطائفي والسياسي والانتماء الحزبي، لا وفق ما نصّت عليه القوانين من تقويم وتصويب ومحاسبة في معزل عن الهوية واللون والهوى. وفق الآلة الحاسبة تلك هناك دائماً من يحظى بأكثر وآخر ينال أقل، لكنها أمور هامشية لا علاقة جوهرية لها بأزمة الوظيفة العامة في لبنان ولا بالحقوق المغيّبة أو المنقوصة. ثم إن أصحاب هذا الخطاب الأيديولوجي بامتياز يتناسون أن الحقوق المنقوصة تلك، وفي المضمون، ليست للمسحيين حصراً وبالإطلاق. صحيح أنها في وجه ما حقوق لبعض المسلمين على حساب بعض المسيحيين: لكنها أيضاً حقوق لمسيحيين محددين على حساب مسيحيين آخرين؛ كما أنها لمسلمين على حساب مسلمين آخرين، وكذلك للمسلمين والمسيحيين “الحقيقيين” – أي المنتمين لهذه الجهة أو تلك – على حساب المواطنين اللبنانيين الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين، ونقطة على السطر.
وإلى ذلك، فليس في الأمر كله، ولم يكن في الماضي، من معنى ديني، أو طائفي، كبير أو محدد، ليستحق هذا الضجيج “الطائفي” الاستثنائي، والذي ينطوي على مخاطر جانبية عدة. بل إن في وسع البعض أن يقول إنه ليس أكثر من ذرّ الرماد في العيون، وتغطية لمسؤولية المؤسسة اللبنانية كافة، بركنيها المدني والديني، عن إطالة أمد نظام طوائفي لا يستطيع أن يكون عادلاً – بكل المعايير، وفي كل الاتجاهات. والتصدي العالي الصوت بالتالي للتذكير بحق “طائفي” هنا، أو لتحقيق مكسب “طائفي” هناك؛ هو من باب تغطية القبوات بالسموات (وليس العكس)، أو نوع من إبراء (دفاعي) للذمة حيال مظالم نظام سياسي نحن ابتنيناه، ونستمر بالدفاع عنه في كل لحظة، وفي كل حين، وبكل لغة – ولو اقتضى الأمر وصف المطالبين بتصحيح حال هذا النظام (قديماً وحديثاً) بـ”غير اللبنانيين” مرة، و”عملاء الخارج” مرة ثانية، و”أعداء الصيغة” الفريدة مرات ومرات.
الحقوق المغيّبة أو المنقوصة للبنانيين موجودة وكثيرة، لكنها ليست حقوقاً طائفية منقوصة: بل حقوق اجتماعية، فئوية، مهنية، طبقية، جندرية، مناطقية، مغيّبة أو منقوصة، كلياً أو جزئياً. ويجب بالتأكيد فتح الباب لحراك يوصل إلى تأمين الحقوق الدستورية تلك، أو يذكّر بها في الحد الأدنى. وحسناً يفعل من يفعل ذلك، واللبنانيون كلهم معه، أو يجب أن يكونوا كذلك. إلا أنه حين نجعل لكل تلك الحقوق والمطالب عنواناً طائفياً صارخاً، من هنا أو هناك، فنحن ببساطة إنما نعود فنقفل الباب على إمكان إحقاق الحقوق والمطالب تلك، بل نفتعل انقسامات جديدة، بل إيهامات أيديولوجية جديدة تهدف في حقيقتها إلى تأبيد النظام السياسي المشكو منه لا تأمين حقوق ومطالب الفئات المظلومة.
وأخيراً، إذا كان أصحاب الخطاب الطائفي العالي الصوت في المطالبة بالحقوق الوظيفية لا يدركون كل ذلك، فتلك مصيبة؛ أما إذا كانوا يدركون ذلك ويستمرون في ما هم عليه، فالمصيبة أعظم.
وعلى سبيل المثال، ولأخذ العلم والعبرة فقط، هناك اليوم في الجامعة اللبنانية 18 عميداً، ليس بينهم عميد درزي واحد. ماذا أخّر ذلك، أو أعاق، من نيل الدروز، في الجامعة اللبنانية (ويا لهذا التعبير المقيت) لحقوقهم الطبيعية التي نصّت عليها لوائح الجامعة؟ ولو كان هناك في المقابل 5 عمداء “دروز”، ما الذي كان سيتغيّر؟
كفى نفخاً في البوق الطائفي المقيت، الشيطاني، والانتحاري!
وإذا كنّا حقاً غافلين عن مآل ذلك الطريق، وإلامَ يقود، فلنصح من غفلتنا، ولندرك خطورة ما نفعله؛ ولنتذكّر جيّداً، أنه كان خيّل للبعض بنتيجة حرب 1988-1989 أنهم في لحظة ما سجّلوا نقاطاً وحققوا مكاسب، إلاّ أنهم اكتشفوا سريعاً بعد ذلك أنهم خسروا وطناً!

استاذ في الجامعة اللبنانية