أسمهان: حفل اليسوعية والإبداع والظلم الموصوف!

محمود الأحمدية

“أروع الموسيقى هي التي تردّنا إلى طبيعتنا الحقيقية، تدلّنا إلى الوعي المطلق الذي يتعدى جميع أزواج الأضداد وتكشف لنا إذا توحّدنا بالسماع عن أحدية الوجود ووحدة سعادته في وجوده” (كمال جنبلاط)

مساء الخميس 14 كانون الثاني الساعة الثامنة، وعلى مسرح بيار أبو خاطر في الجامعة اليسوعية، وطفي حرم العلوم الإنسانية، إحتشد متذوقو الفن الراقي قبل ساعتين من بدء الحفل… كنت ترى كل الأعمار من العقد الثامن حتى أوائل العقد الثاني نعم كثيرون كانوا تحت الثمانية عشر ربيعاً… ومختلف شرائح المجتمع كانت موجودة.

جامعهم الأساسي كان إسم الفنانة الخالدة أسمهان والفنانة سمية بعلبكي، أما الأوركسترا التي يربو عدد أعضائها على الخمسين عازفاً فيهم اللبناني وفيهم الأجنبي والقيادة كانت للدكتور عبد الله المصري…

وفي الساعة الثامنة تماماً، بدأ الحفل والحشد الهائل الذي ملأ المقاعد وملأ درج الممرات ووقوفاً في الصفوف الخلفية، تحول هذا الحشد إلى مصلين في محراب أسمهان…لا حركة، لا همسة، إلا عيون شاخصة في المايسترو وفي الفنانة وبدأ مهرجان الجمال والإبداع مع أغنية (إمتى حتعرف) من ألحان الموسيقار الخالد محمد القصبجي وتعلقت الأفئدة والمشاعر بكل حرف ونغمة وآهة وترنيمة في هذا اللحن البديع وإنتهت الفنانة بعلبكي مع تصفيق رائع وحضاري يليق بفنها وبصوتها.

ثم كانت الأغنية الثانية (دخلت مرة فجنينة) للموسيقار مدحت عاصم وتحول الحشد الهائل إلى كتلة صامتة مصغية بخشوع ووله ومحبة وجاء دور أغنية (يا طيور) معجزة محمد القصبجي وقدمتها الفنانة الرائعة سمية بعلبكي بإعجاز حتى يتخيل المرء في بعض اللحظات هل حقيقة نحن في حفل أم في صلاة؟

ويتساءل أي مراقب: هل حقيقة إنتهى زمن الفن الراقي الإبداعي لأن نفس هذا الجمهور الذي يستمع بخشوع ويتمايل في مقعده مع كل انعطافة في لحن القصبجي الأوبرالي وكأن الحواس تعلقت بالحروف المُغَنّاة، جُلُّهُ من جمهور حفلات هذه الأيام؟؟ أهي قصة المتلقي!؟ حديث يطول… ثم جاء دورأغنية (فرق ما بينّا ليه الزمان) للقصبجي أيضا والابداع استمر والاستماع بخشوع استمر والاغنية ما قبل الأخيرة (يا حبيبي تعالى) التي إقتحمت الحدود العربية إلى العالمية وكان مسك الختام الأغنية الخالدة والفالس العربي التاريخي الذي لحنه موسيقار الأزمان فريد الأطرش (ليالي الأنس في فيينا) وعند هذه الأغنية لا يستطيع المرء إلا أن ينحني إحتراماً وخشوعاً واعجاباً باللحن الخالد وبالفنانة سمية بعلبكي والمبدع المايسترو عبدالله المصري…

الأغنية حوالي الربع ساعة، كانت الثواني والدقائق ترحل في حنايا القلوب وتسافر في مشاعر الناس وتلف أجواء القاعة والمسرح والجمهور وكاننا في لحظات انسجام خالدات تُظْهِرُ بأن أرقى الفنون هي الموسيقى واقربها إلى القلب… العجيب وعند قفلة (متّع شبابك في فيينا دي فيينا قطعة من الجنة) كنت ترى الأكف ترافق الموسيقى بدون أي نشاز وللمرة الأولى وفي أغنية كلاسيكية بهذا الحجم يتوحد الجمهور مع الأوركسترامع المايسترو مع الفنانة بعلبكي في وحدة متكاملة وابلغ دليل وعند انتهاء الأغنية وعندما حلَّقت سمية بعلبكي إلى السماء السابعة وقف الجمهور يصفق قرابة ثلاثة دقائق والشهود هُمُ المئات الحاضرة هذا الحفل…

الأغاني التي قدّمتها الفنانة بعلبكي والتي تخلّلت البرنامج والتي لوّنت الحفل بطريقة جميلة وإبداعية كانت: رائعة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب (أهواك) والتي غناها الفنان الخالد عبد الحليم حافظ وأغنية (يا هلي) الخليجية تلحين الفنان عبد الحميد السيد وأغنية (التوبة) للفنان الخالد بليغ حمدي وتجاوب الجمهور بشكل بديع مع هذه الأغاني الثلاث التي أعطت نكهة جميلة ورائعة للحفل بشكل إجمالي…

وتبقى الغصة موجودة، ويبقى العتب موجوداً، لأن عنوان السهرة والحفل والبرنامج والذي على أساسه تمت دعوة الناس كان لأسمهان وإذا تصفحت كل صفحات البرنامج الموزّعة للجمهور، إسم أسمهان غير موجود!

ولا أدري ما هي الحكمة من ذكر إسم الأغنية وإسم المؤلف وإسم الملحن والقفز فوق إسم الفنان الذي غناها وقدمها للناس؟ وهل إلى هذه الدرجة المتدنية يغيب إسم مطرب الأغنية؟؟ سؤال أطرحه بكل تجرد ومن باب المودة لهذه الفرقة الرائعة وهذه المناسبات الحضارية بامتياز!

والملاحظة الثانية التي تتناقض مع كل الأعراف والحقائق وخاصة إذا أتينا على سيرة العظيمة “أسمهان” هناك حقائق تاريخية تثبت وعلى لسان الجميع من صحافة فنية ومؤرخون تاريخيون ونقّاد لهم وزنهم الفني حتى الذين لحنوا لها وكلهم طاقات فنية لها وزنها التاريخي من القصبجي إلى مدحت عاصم إلى رياض السنباطي إلى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب إلى الشيخ زكريا أحمد كلهم على إتفاق بأن الفنان الأبرز الذي قدم لها من حيث الكمية التّكثيفية عِبِر فيلمي (أحلام الشباب) و(غرام وانتقام) ألحاناً إستعراضية والذي تميز عن الآخرين نسبة لأسمهان كان أخوها الموسيقار الخالد فريد الأطرش…

asmahan

وموقع الظلم وحفلة التعتيم أيضاً طالت هذا الحفل الإبداعي من ناحية تقديم اغنية واحدة لفريد الأطرش من أصل أربعة عشر أغنية لحنها فريد، بينما لحن لها مدحت عاصم لحناً (دخلت مرة جنينة) ولحناً آخر لم يستقر الرأي حتى الآن من هو ملحنه هو فريد الأطرش أم مدحت عاصم “يا حبيبي تعالى”، واللّحنان كانا من ضمن الحفل.

 أما القصبجي فمن أصل سبع أغنيات قدمت الفرقة ثلاثاً منها… السؤال الذي حيّر جمهور الحاضرين وكثيرين منهم يعشقون فريد الأطرش: أين أغنية (يا بدع الورد) التي سحرت أجيالاً بأكملها؟؟

أين أغنية (نويت أداري آلامي)؟؟ أين (يا اللي هواك شاغل بالي)؟؟ أين (يا ديرتي)؟ أين الأغنية الدينية الابداعية(عليك صلاة الله وسلامه)؟ أين (رجعت لك يا حبيبي)؟ أين (أهوى)؟

يشهد الله أنني أقارب الأمور بكل تجرّد حرصاً على التوازن والاعتدال والانصاف في طرح برنامج هذه الفرقة الرائعة التي أحترم وأجل… ولكن الموسيقار فريد الأطرش من المستحيل القفز فوق إسمه وتقديم أغنية واحدة يتيمة (ليالي الأنس) من أصل برنامجٍ كاملٍ متكامل… مقابلةٌ أسردها تكفي للدلالة على مدى الاجحاف الذي وقع بحق فريد الأطرش.

هذه المقابلة  تبقى في الأذهان ومسجلة في القاهرة وهي في حوزتي: سألته المذيعة من ضمن الأسئلة: ما الذي تفتخر به أستاذ فريد بعد كل هذه الرحلة الفنية في حياتك؟؟ كان جوابه واضحاً وقاطعاً وصريحاً: أفتخر بأنني قدمت للعالم العربي إسمين” أسمهان وفريد الأطرش”…. إسم بهذا الحجم كان يستأهل أربعة أغاني من أصل التسعة التي قُدمت في البرنامج… وأخيراً سهرة من العمر ستبقى في الوجدان والذاكرة…

يقول بيتهوفن: “طبيعة الفنانين صفاء وتسامح وانفتاح” نتمنى من صميم القلب أن يسود الصفاء والتسامح والانفتاح كل أجوائِنا الفنية وارفع القبعة لكل الأيادي التي ساهمت في هذا الحفل الإبداعي الحضاري بامتياز بدءاً من الفنانة المبدعة سمية بعلبكي التي سحرت الجمهور وبقي صوتها في المسامع والمايسترو اللامع الدكتور عبد الله المصري الذي ترك لمساته الجميلة وكل المشاركين في الفرقة  الموسيقية.

وأخيراً هذا هو وجه لبنان الحقيقي الوجه الحضاري بإمتياز.

————————————-

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!