هل تذكرون مستشفى النّجدة في صوفر؟ إنه الحلم المستحيل!

محمود الأحمدية

في أوائل التسعينات، تنادى مجموعة من الشباب المؤمن بقيمة الإنسان وبالعمل من أجل هذا الإنسان وأقمنا مستوصفاً في بلدة صوفر وإحتضنت جمعية النجدة الشعبية اللبنانية هذا المستوصف ومدته بكل المستلزمات الضرورية للإنطلاق بطريقة علمية مدروسة…

تشكلت الهيئة الإدارية لفرع النجدة الشعبية في صوفر وبدأنا العمل ببعدين: الصحي والإجتماعي وعلى مدى خمس سنوات وعبر ثلاثة عشر طبيباً في كل الإختصاصات إستطعنا معالجة ما يقارب الستة آلاف مريض وأقمنا مجموعة من النشاطات الإجتماعية الملموسة من إقامة ندوات صحية بيئية وإجتماعية ومن خلاله قمنا بتوزيع حوالي 2000 مستوعب للنفايات على سبعين بلدة في قضاء عاليه وكان البلد لا يزال يتثائب بعد الحروب المؤسفة التي طالت كل الزوايا ودمرت الكثير وتركت قرى بأكملها ينعق فيها البوم وبمساعدة كريمة استطعنا زرع حوالي مايتي آرمة حديدية في مداخل القرى ومخارجها ومزينة بعبارة: (النظافة دليل رقي) وأهلا وسهلاً بكم في البلدة الفلانية عند المداخل ورافقتكم السلامة عند المخارج…

وقمنا بحملات طبية في مختلف مدارس المنطقة وكان تواصلنا مع المدارس والجيل الجديد مثمراً وبناء وأصبح المستوصف في صوفر “مشرقطاً” بعشرات النشاطات وأهل المنطقة يشهدون بذلك… تعاملنا بروح طيبة وبفرح كبير وبإيمان بشعار النجدة  “معاً من أجل الإنسان”…

وكبر الحلم وطرحنا على جمعية النجدة الشعبية مركزياً فكرة إقامة مستشفى في صوفر وكان التجاوب كبيراً… أقمنا دراسات متكاملة لوضع المنطقة الجردية بالبعد الصحي حوالي عشرين قرية تستفيد من هذا المستشفى وقدمنا الدراسة بالتعاون مع مركز النجدة في بيروت للمنظمة اليونانية الديمقراطية في أثينا.

وكان حماس مشترك رائع عندما إشترينا الأرض وبدأ العمل على مدى ثلاث سنوات، كنا نعيش الحلم ليلاً نهاراً ولا نصدق بأن الذي يقام أصبح حقيقة واقعة أعلناها بكبر وعزة وإيمان: مستشفى الولادة في صوفر وكان الإفتتاح برعاية الأستاذ وليد جنبلاط وبحضور ثلاثة عشر سفير دولة وعشرة الاف شخص من كل أنحاء المنطقة…

كان عرساً حقيقياً للعمل الإجتماعي عندما تتبلور الفكرة وتدرس بطريقة علمية كفوءة وعندما يشرقط الإيمان فتندلع كل العطاءات وتتسابق كل الهمم حباً بالعمل من أجل الآخرين مشاعر لا يمكن وصفها… وكان لي شرف رئاسة الفرع والمستشفى… وكل إبتسامة على وجه مريض كانت شعاع نور وفرح وأمل لنا وكل نجاح عملية جراحية كان فعل ايمان بروعة العمل الإجتماعي وأكملنا النشاط الطبي والجراحي بنشاطات اجتماعية فاقيمت عشرات الأمسيات في قاعة المحاضرات واقيمت عشرات الندوات.

وأصبحت صوفر عاصمة حقيقية للجرد الأعلى في قضاء عاليه… وكان منظر المستشفى بقرميده وهندسته ومدخله وتفاصيله الدقيقة والغرانيت الذي سكن كل مساحات المستشفى كان عنواناً للعمل الهندسي المبدع الجميل…

ومرّت الأيام وشعرنا بأن كل يوم عيدٌ لدينا وكل ساعة فرح عطاء لا ينضب ويكفي أن ترى ثمرة جهدك تتبلور وتتجسد عبر إقامة الصرح الصحي الجميل… وفجأة هبت عاصفة الأنانية والتناقضات في أروقة الحزب الشيوعي اللبناني الذي يشكل أساساً في إقامة حوالي 19 صرحاً طبياً مماثلا في لبنان بأكمله وعِبر النّجدة الشّعبيّة اللبنانية….

وفي أحد إجتماعاتنا في بيروت وفي الهيئة الإدارية مركزياً جاءنا الخبر الصاعق: النجدة لها أم وأب!! أي إعادتها إلى بيت الطاعة والإبتعاد عن تركها مستقلة كرافد إجتماعي إحتضن كل الأهواء والأحزاب والمشارب في كل لبنان عبر شعار “معاً من أجل الإنسان”

وكانت معركة إنتخابية جديدة سقط فيها الذين أرادوا من النجدة رافداً إنسانياً يحمي البشر بأهداب العيون ونجح الجناح المتشددة… وبدون الإطالة أقفل المستشفى منذ عشر سنوات وما زال مقفلاً تصفر فيه الرياح وما زال المولد الضخم الذي قدمته فرنسا للمستشفى يشكو القهر والعفن والنفوس المريضة وأصبح لونه الأحمر فاتحاً والقرميد سكنه الغبار فأصبح رمادياً والحديد أكله الصدأ…

هي قصة حزينة عندما يواجه الإنسان حقد الآخرين وعندما تتحطم آمال خمسة عشر عاماً من العمل الإجتماعي….

كلمة أخيرة، الأشجار التي زرعناها حول المستشفى أصبح إرتفاعها خمسة عشر متراً وهي أوفى من الإنسان …النغصة الوحيدة في قلبي وقلب كل الزملاء الذين شاركوا سهر الليالي والعذاب والتعب والإجهاد: لم أسمع شخصاً واحداً سأل باهتمام وبمحبة وبتحمل مسؤولية: لماذا أقفلت المستشفى؟؟

قصة حزينة في وطن حزين يأكله صدأ الأنانية والركض على جثث المقهورين.

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!