المطران غريغوار حداد…  ترجّل عن جواده ورحل

محمود الأحمدية

“أناشدك في حضرة الله والمسيح يسوع… أن أعلن كلام الله وألحّ فيه,بوقته وبغير وقته ووبّخ وأنذرْ وعظْ بصبر جميل وبرغبة في التعليم. فسيأتي يوم لا يحتمل فيه الناس التعليم الصحيح، بل يتخذون طائفة من المعلمين وفق شهواتهم، فيصمّون مسامعهم عن الحق وليقبلوا على الخرافات”.

المطران غريغوار حداد يختصر في شخصه ومساره جوً متعددة رفدت الإنسانية بنضال متواصل ناهز نصف قرن من الزمن… ويشرفني الإضاءة على الجانب الإنساني الوطني اللاطائفي الذي كان يمثله على صعيد الوطن كرمز متقدم من رموزه… ويكفي أنه كان يردّد في مجالسه الخاصة والعامة الحديث الشريف: “إن الله لا ينظر إلى صدوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”…

كان الأب غريغوار يتواجد في رأس بيروت وفي عين الرمانة قرب عاليه وفي عاليه بالذات وفوق هذا كله هو مطران بعلبك بالوكالة… كان ذلك أثناء الحرب اللبنانية المشؤومة… ويشرفني أن أضع بين أيديكم مقالة قطفت منها بعض الفقرات حتى تتوضح صورة هذا الإنسان الرمز بوطنيته بحبه للآخر باندماجه في كل شرائح المجتمع اللبناني تحت شعار آمن به حتى يوم رحيله “الإنسان أولاً”.. كان له الدور الأبرز في كل ما سيأتي في تفاصيل هذه المقالة…

يقول المطران غريغوار:  قضاء عاليه سبعون مدينة وقرية… منها الدرزية الصرف ومنها المارونية الصرف ومنها المختلطة بين الدروز الموارنة أو الروم الأرثوذكس أو الروم الكاثوليك ومنها قريتان شيعيتان… وللقضاء خمسة نواب: درزيان، مارونيان، وأرثوذكسي… بدأت الحرب في لبنان وتعاقبت الجولات وظل القضاء سنة ونيّف خارج المعترك… بل نظّم القضاء ذاته ليبقى خارج حلقة العنف الجهنّميّة،  فنشأت “اللجان الأهلية” في القرى السبعين  ونشأت “اللجان المحورية” التي كانت تضمّ لجان القرى المتجاورة.

المطران غريغوار حداد

وقد قسم القضاء إلى تسعة محاورفي كل محور قرى سكانها من مختلف الطوائف، كانوا يجتمعون مرّة كل أسبوعين في كل محور، دورياً في كل قرية من قرى المحور…ونشأت “اللجنة الأهلية المركزية” التي جمعت ممثلين عن المحاور التسعة وعن جميع الأحزاب اليسارية واليمينية التي كانت موجودة في القضاء. وكان هدف هذه اللجان الأهلية، المحلية والمحورية والمركزية، الحفاظ على الأمن والسلام والتعايش بين أبناء البلدة والمحوروالقضاء.

وكانت الحرب تزداد ضراوة وبدأت الممارسات العنيفة البغيضة: القتل على الهوية والخطف والخطف المضاد وتصفية المخطوفين… فكانت اللجان الأهلية تتحرّك حالاً عندما تسمع أن أحداً من أبناء القضاء قد خطف في القضاء أو خارجاً عنه، لئلا تنظّم عائلته أو بلدته رداً عنيفاً، فينشأ المسلسل الجهنّمي وكانت في أغلبية الأحيان تنجح في هذه التحركات وتقضي على العنف في المهد. وفي لجنة مدينة عاليه كان يجتمع الشيخ الدرزي والكاهن الأرثوذكسي والكاهن الماروني والكاهن الكاثوليكي،  بالإضافة إلى مجموعة من ممثّلي العائلات من كل الطوائف. ولم يكن هناك أي تعجب لهذا اللقاء، ولم يحدث مرة واحدة أي نزاع بينهم وكان الجميع يعتبر ذلك طبيعياً. وحدث انقلاب الأحدب وانقسم الجيش وانتقلت الحرب إلى الجبل أي إلى عاليه، فتجمعت الجيوش والميليشيات المضادة في عاليه والقماطية وجوارهما من جهة، وفي الكحالة وبدادون وجوارهما من جهة أخرى…

 وكانت “لجنة عاليه الأهلية” تضم ممثلين عن القماطية الشيعية وبدادون وبسوس وبليبل  وحومال وكلها مارونية… وحاولت اللجان أن تكمل عملها الأمني بالرغم من وجود الكثير من الغرباء عن مناطقهم يتقاتلون معاً ولكن اللجان السلمية كانت أضعف من أن تؤثر في تغيير مجرى الأحداث الضخمة التي كانت تمرّ في لبنان وتنعكس على كل منطقة بالرغم من ارادة اهاليها”.

 وتابع المطران غريغوار: “لم يؤثّر الأهالي على الأحداث ولكنهم لم يتركوا الأحداث تؤثر عليهم، أي أنهم بالرغم من الحرب التي اجتاحت مناطقهم ظلوا على علاقة أقلّه هاتفية ما ظل الهاتف سالماً  وكانوا يستنكرون ما يحدث ويتوقون أن يتوقف كل العنف” وبعد تأزم الأمور، وغياب السلطة وتضعضع الإدارة الرسمية وضياع مصالح السكان، أسس المرحوم كمال جنبلاط “الإدارة الشعبية المشاركة” في قضاء عاليه وظل هذا التيار اللاطائفي مسيطراً على المنطقة كلها.

وأنشأت “الإدارة الشعبية المشاركة” ست لجان اختصاصية لتلبية حاجات الناس. للأمن، التموين، الأشغال العامة، الصحة والإسكان للمهجرين وكانت ثلاث من هذه اللجان برئاسة مسيحيين ولم يكن ذلك مقصوداً للتوازن، بل لأن هؤلاء المسؤولين الثلاثة اعتُبِروا صالحين لتلك المسؤولية ولم يثر ذلك أي اعتراض من أحد”.

  ومن أهداف هذه الهيئة ما هو أبعد من التنمية الأقتصادية الإجتماعية، الدلالة بالعمل لا بالقول أن اللبنانيين يعرفون أن يتجاوزوا الطائفية والكلام لكمال جنبلاط و يعرفون أن  يتعايشوا ويتعاونوا ويتفاعلوا وأن يكون انتماؤهم وطنياً لبنانياً ضد كل تقسيم وتجزئة وتفرقة….

إنها تجربة نموذجية يمكن أن تتعمم شيئاً فشيئاً على كل لبنان…

انتهى حديث المطران غريغوار حداد… رب قارىء يقول: لماذا كل هذه التفاصيل، وأرد فأقول: عن سابق عمد واصرار، سلطت الضوء على البعد الإنساني النضالي لرجل اقترب من القدسية في حبه لوطنه ولإنسان وطنه في طواعية علاقاته وسلاسة مقاربته لأصعب الأمور وتطبيق ما جاء من تعاليم ايجابية بالمحبة والرحمة واعطاؤها نكهة يسارية خاصة تخفف من حدّتها فكان الأب الرمز والمطران المثال انطلاقاً من أخذ العبر من خلال مقالته التي دخلت في صميم التفاصيل وتطبيقاً للمقولة التي آمن بها حتى رحل: “الإنسان أولاً”.

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!