مشاهدات من إيطاليا…تعرّينا أكثر!

محمود الأحمدية

غادرتُ لبنان في رحلة عمل إلى إيطاليا حيث لي أخوتي في مدينة مودينا الشمالية عبر مطار بيروت ومطاري أثينا وميلانو… وبدأت رحلة المفاجآت في مطار بيروت حيث التفتيش قبل دخول قاعة المسافرين وكانت المفاجأة أنني كنت الوحيد من مجموعة المسافرين الذي طُلِب منه بطريقة فجّة: “إشلح القشاط والصباط”! جملة سجعية جميلة!!

بالبعد الأمني كنت سعيداً شرط الإبتعاد عن الإستنسابية، وتعجّبت، وبكل هدوء نفّذت الأوامر غير الحضارية بالبعد الإنساني… متى يصل رجل الأمن المسؤول عن التّفتيش بتطبيق القانون زائد إبتسامةً كما يجري في الدول الحضاريّة؟ سؤال بقي يضج في مخيلتي؟

قارئي الكريم، لا أسطح الأمور ولكن في بلاد الأرز هناك أمور غير قابلة للتفسير وسياسة اللامنطق تسود بإمتياز…

والمفاجأة الثانية كانت في الممر الأخير للتفتيش حيث هناك جهتان للتفتيش شمالاً وجنوباً وعليك أن تتحزّر أين هو مكان تفتيشك؟ والرقم هو الفيصل، فبعد خمس دقائق تفتيش وجلوس في المقهى وعند إعلان قرب إنطلاق الطائرة المتجهة إلى أثينا ورقم بوابة الخروج 23، كانت المفاجأة الصّاعقة أنّ مجال التّفتيش من الجانب الآخر على بعد ماية متر… وهات يا ركض…

سألت رجل الأمن: وكيف لي أن أعرف؟ قال ببرودة يحسد عليها: عليك أن تسأل! الله على اللامنطق…المنطق يقضي بوضع لوحة تحدد الأرقام على الجهتين… وتركنا بيروت ومنظر الجبال من الشباك يشرقط في كل كيانك فرحاً ممزوجاً بالحنين والألم…

وفي أثينا تفتيش عادي وتتفاجأ بلهجة حضارية وإبتسامة مدروسة وموجهة وتشعر بنفسك إنساناً وعوملت كإنسان… وفي مطار ميلانو مباشرة إلى الخارج حيث أخوتي ينتظرونني… بدون أي تفتيش هذا هو قانون دول “تشنغن”…

ايطاليا

وعشت تسعة أيام في بلاد الحضارة وتفاصيلها اليومية تجلدني كلبناني من خلال الفارق الحضاري الذي كان يصدمني كل لحظة وفي كل مكان في مدينة مودينا الواقعة على بعد مايتي كيلومتر من ميلانو.

الملاحظة الأولى، وفي الطرقات الداخلية، الأفضلية للممرات الخاصة بالناس لاجتياز الطريق، فمجرد مرور شخص أو مجموعة السيارات وبسرعتها الخفيفة تتوقف تلقائياً وبطريقة نابعة من شعور الإنسان وحضارة الإنسان، وعلى جانب الأوتوستراد هناك مسافات بمئات الكيلومترات لخدمة الأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة…

وأروع التطبيقات العلمية هي إستخدام القمر الاصطناعي في المساعدة على قيادة سيارتك بالوصول إلى أي نقطة في دول “تشنغن” الأوروبية، يكفي أن تبرمج لوحة سيارتك نقطة البداية ونقطة النهاية فالكمبيوتر والصوت النسائي يدلانك طيلة رحلتك على كل المخارج وعبر كل المسافات، وإذا أخطأت ينبهك ويدلك من جديد على كيفية العودة عن الخطأ لتكملة الرحلة!

طيلة تسعة أيام، لم أسمع زموراً واحداً. الأمر الذي أدهشني هو المنهجية الصحية في معالجة المرضى والتكاليف… كل شيء في إيطاليا من حيث المعالجة الصحية مجاني من المستشفى إلى الطبيب.

والطبيب ملزم من الناحية القانونية أن يأتي إليك في المنزل بدون أي منّة أو دفع ولكنه القانون. وعن كل مريض تدفع الدولة ثلاثين يورو للطبيب وإذا تخلى عنك فمجرد إشعارك الوزارة بذلك يرفعون الدفع تلقائياً عن الطبيب…. ما أروع إحترام إنسانية الإنسان….

أما في مجال النفايات المنزلية، فحدث بالإبداع والبصمة السحرية التي تنطلق من المنزل مروراً بالشارع وصولاً إلى المصانع… دائرة مقفلة يشارك فيها ستون مليون ايطالي وتتحول النقمة إلى نعمة بشكل حقيقي بعيد عن الدعاية والتنظير… ويكفي مثل واحد للدلالة على الإهتمام البيئي ومن خلال مشاهداتي على الطبيعة وبطريقة عملية في مدينة مودينا حيث يعمل أخي كمهندس بلديتها علمت بأن عدد أشجارها 14500 شجرة (أربعة عشر ألف وخمسماية شجرة) كلها مرقمة ومن خلال تعرض أي شجرة لحادث ما أو مرض ما فعبر الأقمار الإصطناعية تتم عملية متابعة وضع هذه الشجرة وطريقة معالجتها…

قصص أغرب من الخيال ولكن الخيال يتحول إلى حقيقة عند الدول التي تحترم شعبها وتحترم بيئتها… وعندنا يقطعون حرجاً بأكمله والمسؤولون نيام…

رحلة ناهزت العشرة أيام وتركت غصة في القلب والعقل والوجدان بمجرد المقارنة بين وضعنا المهترىء على كل الأصعدة بوضع إيطاليا الدولة الإبداعية حيث للإنسان قيمة وللحياة قيمة وللوقت قيمة…

عند مغادرتي، وعلى الطريق إلى المطار، كان المطر يهطل بغزارة وأصداء الأغنية الإيطالية يملأ وجداني…وطني متى تنتهي عذابات شعبك؟؟

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!