الإسلام السياسي بين الانتخابات المصرية والتركية

أكرم البني (الحياة)

الإمعان في هزيمة «الإخوان المسلمين» وشرعنة إنهاء دورهم في الحياة السياسية، كان عنوان الانتخابات البرلمانية المصرية على رغم الإقبال الضعيف، الذي بدا احتجاجاً صامتاً على السياسات التسلطية للحكومة وتلكؤها في معالجة المشكلات الاقتصادية المتفاقمة، وليس تعاطفاً مع ماضي الإخوان والإسلام السياسي، بدليل التراجع الملحوظ أيضاً في شعبية الأحزاب السلفية كحزب النور مثلاً، وقبله انعدام التعاطف الشعبي مع محاكمات كوادر الإخوان وقادتهم، ليصح اعتبار هذه الانتخابات استكمالاً للقطيعة بين عموم المصريين و «الإخوان المسلمين»، وكأن الشعب المصري قد تخلى بعد التجربة الاستئثارية القصيرة والمريرة للإسلام السياسي في الحكم عن هذا الخيار نهائياً.

ببراغماتية يشهد لها تدارك أردوغان في دعوته لانتخابات مبكرة تراجع حزبه شعبياً، ونجح في جذب الناخبين ليس بورقة الازدهار الاقتصادي والإسلام الديموقراطي، بل بشعار الأمن والاستقرار، مغازلاً مخاوف قطاع شعبي واسع من انتقال ما يحصل في بلدان الجوار إلى مجتمعهم ومن أن يفضي استمرار العجز عن تشكيل حكومة إلى الفوضى والاضطراب، ومستقوياً بتواتر العمليات الإرهابية في الفترة الفاصلة بين المحطتين الانتخابيتين. ونضيف أن حكومة أنقرة لم تفوت الفرصة لاستمالة فئات علمانية بإظهار بعض التريث في دعوتها لإجراء تبدلات نوعية تطاول بنية الدولة وبردع أنصارها الذين يذهبون بعيداً في المطالبة بفرض نمط الحياة الإسلامية على المجتمع، أو لاستمالة فئات شوفينية يهمها عدم تقديم تنازلات في مباحثات التسوية السياسية مع حزب العمال الكردستاني، ثم استمالة فئات ثالثة بإبراز أهمية الداخل التركي وأولوية معالجة مشكلاته وتخفيف ما يلحظ من اندفاعها نحو التدخل في الصراعات الخارجية بغرض تحسين الموقع والنفوذ الإقليميين.

واللافت في هذين الاستحقاقين أن العامل الخارجي لعب دوراً داعماً لما تحقق من نتائج، إن بتغطية الإجهاز على الحضور السياسي لـ «الإخوان المسلمين» في مصر، وإن بتمرير ما يجري في تركيا لمصلحة حكومة العدالة والتنمية، وكأن حسابات الغرب تلتقي اليوم مع تمكين هذين النظامين ودعم استمرارهما في الحكم في هذا الظرف بالذات من انفلات الصراعات المذهبية في المنطقة.

لكن مثلما يفترض بالسلطة المصرية بعد تدني إقبال الناس الفاضح أن تدرك أن الشعبية التي حصلت عليها عبر مرشح الرئاسة، عبدالفتاح السيسي، جاءت بسبب فشل «الإخوان المسلمين» في حكم مصر، ولن تستمر في حال فشلها هي الأخرى في حكم البلاد ومعالجة أزماتها، على سلطة أنقرة أن تدرك أيضاً أن ميل الأتراك نحو الأمن والاستقرار لن يدوم طويلاً، إن لم تجاهد لتعويم دورها والتعاطي المثابر مع مشكلات المجتمع، بل الأخطر على الأمن والاستقرار حين يستغل حزب العدالة والتنمية الأكثرية النسبية التي حصل عليها للانتقام من خصومه ولفرض ما يضمره من مشاريع استئثارية خاصة، ويستهتر بالمعالجة السياسية للمسألة القومية الكردية في إطار الدولة الديموقراطية الموحدة.

ويبقى المستقبل هو الحكم في الرهان على نموذج الإسلام السياسي لدى أردوغان وحزب العدالة والتنمية اللذين نجحا في جر المزيد من الناخبين للتصويت ونيل أكثرية برلمانية، ما داما خير من يتقن اللعبة السياسية في مجتمع ديموقراطي عريق، ويدركان أن أساس الاستمرار في السلطة ليس الاستئثار والقمع بل نيل رضا الناس عبر معالجة حاجاتهم وهمومهم، وما دام أردوغان لن ينسى نصيحته لـ «إخوان» مصر، وهم في أوج قوتهم، بأن دخولهم اللعبة السياسية يستدعي إعلان علمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة! وما دام لا يزال يجاهر بفرادة تجربته وأنها تمتلك فرصة بناء النموذج العتيد للعمارة الديموقراطية الإسلامية.

والحال هذه، كشفت الانتخابات المصرية والتركية شدة المحنة التي يعانيها الإسلام السياسي اليوم، إن في السلطة أو خارجها، خاصة لجهة تردده في تمثل قيم التعددية والديموقراطية أو مسارعته للانقلاب عليها، والأهم عجزه عن مواجهة تمدد المتطرفين الجهاديين وقد باتوا يتصدرون المشهد السياسي الإسلامي.

وإذ يتطلب التصدي للتطرف الإسلاموي اجتذاب قوة الدولة العميقة وإعادة تأسيسها على القواعد الديموقراطية، لكنه يتطلب أساساً فهم ومعالجة الأسباب الموضوعية لنشوئه وترعرعه، جوهرها معالجة تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية، وتوفير شروط حياة تليق بالإنسان وتخلق الفرص الضرورية لضمان حاجاته المادية والروحية. فالتطرّف والعنف المصاحب له لا ينتعشان إلا كرد فعل مشوه على احتكار السلطة والقهر والاستبداد وعلى ظواهر الفساد والتفرقة والتمييز.

يبدو أنها لعنة حلت على شعوبنا حين تضطر دائماً للاختيار بين أنظمة لا ترضيها وتمارس ما يحلو لها من اضطهاد وفساد وبين بديل إسلاموي مستبد أو متشدد، ما يفسر غياب أية ردود أفعال شعبية حين تسوغ الحكومة المصرية تحت عباءة البعبع الإسلامي تضييقها على الحريات وتمرر اعتقالات طاولت بعض نشطاء ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، وحين توظف حكومة أوغلو تصاعد إرهاب «داعش» كي تنكل بمعارضيها، بما في ذلك إغلاق بعض المراكز الإعلامية والإخبارية!

لا يمكن لعاقل أن ينكر تطور ظواهر يمكن أن تفرزها خصوصية مجتمعاتنا لا تزال تجد خلاصها في الربط بين الدين والسياسة، ظواهر لا تصح مواجهتها بالإقصاء والرفض، بل بمحاكاتها نقدياً في أجواء الحريات واحترام التعددية والاعتراف المتبادل، وبتشجيعها على تمكين الدين من تقديم إجابات على أزمات الواقع وأسئلته الملحة، واستلهام الميراث التقدمي والإنساني في الظاهرة الدينية لتجديدها وتصحيح ما يحمله الناس من أفكار خاطئة ومغلوطة، ما يؤسس لفهم جديد للإسلام يلبي متطلبات الواقع وحاجاته استناداً إلى قول الرسول الكريم «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» لينأى به عن دنس السياسة ويكرس تألقه كرسالة خير ومساواة وإخاء! فهل نمتلك فرصة قيام أحزاب بأسماء دينية، لكن ديدنها القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، مثل نماذج الأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا، أم يصح القول في حالتنا: داء فالج لا تعالج!