نهر النفايات: لبنان خارج التاريخ والحضارة

محمود الأحمدية

“ثلاثة أشياء قد تخدّر الضمير أو تصيبه بالصدأ: المال والسلطة والشهرة” (مثل ايطالي)

بالأمس وعندما بدأت الأمطار تهطل بغزارة كان هاجس الناس الذين قضّ مضجعهم التخوّف من هذه اللحظات المأساوية من خطر منتظر حتى من أبسط البسطاء:ماذا سيحلّ بالنفايات المرميّة بطريقة لا يقرها عقل ولا ضمير ولا ذرة تحمل مسؤولية؟؟ وكان المشهد المأساوي الذي سيبقى في وجدان الجيل الحالي وكل شرائح مجتمعنا وكل من شاهد هذا المشهد على الفضائيات وفي كل أرجاء الدنيا!! فالعالم أصبح قرية صغيرة عبر الإلكترونيات ووسائل التواصل الإجتماعي والفضائيات!ألوف الأكياس المملوءة بكل ما لذّ وطاب من بقاياما تركه اللبنانيون من نفايات وهي تسبح فوق نهر يكتسح كل شيء… منظر هوليودي بامتياز يعجز هيتشكوك ودي لورنتيس عن تحقيقه…هو جزء مرعب من فيلم رعب أبطاله المسؤولون والشعب والبطر واللامسؤولية والشرخ العامودي بين الأغنياء والفقراء وانسحاق الطبقة الوسطى ومحبة الفراش الدافىء الوثير عند الأغلبية الساحقة من المسؤولين وصح القول: ومن بعدي الطوفان،هو نيرون جديد من نوع آخر كنموذج نقدمه للعالم:لبنان الحضارة سقط من مصدّر للحرف إلى مستنقع للنفايات… وهذا المنظر الذي أُركّز عليه وفي كل دول العالم، لم نره في شوارع مدنهم وع لى مستوى الكون!

منذ 17\1\2015 حتى 17\7\2015 موعد اقفال مطمر الناعمة، مسافة زمنيّة تربو على الستة شهور,كانت كافية أمام مطلق حكومة مسؤولة أن تجترح الحلّ الجذري لملفّ من المعيب تصوّر العجز عن حلّه! هناك أجيال ستبصق على صورنا وعلى أسمائنا وعلى كل ما يمت لهذه المرحلة بصلة! ستة شهور ومهما كانت الأسباب وكان هناك نقاش شخصي لي مع الوزير محمد المشنوق  ولن أدعي أنني أشيل الزير من البير ولكن بخلفيتي البيئية وبالرؤيا التي أدعي أنني أمتلكها وفي برنامج الإعلاميّة نوال ليشع على الهواء في إذاعة صوت لبنان وكنت ضيف البرنامج وكان ذلك حوالي الشهر الثالث من المهلة أي نيسان 2015 وكان الضيف الثاني ومن مكتبه الوزير مشنوق: قلت له والتسجيل موجود باقي ثلاثة شهور يا معالي الوزير وكل لبناني يتساءل:لم نشعر بالخطة البديلة عن اقفال مطمر الناعمة!الموعد القنبلة 71\7\2015 هل تهيأتم لإستقباله ببرنامج فوري ابداعي يحمل عنصر اللمعة والمفاجأة في تنفيذ برنامج حضاري يقدم لبنان نموذجاً حضارياً للعالم أجمع كما يفعلها اللبنانيون في شتى أصقاع الدنيا!!

نفايات

وشدّدت وقتها على أهمية ازدواجية الحل: أي اعتماد ثقافة الفرز من المصدر كحل قدري لا مهرب منه مهما حاولنا التستر والابتعاد تحت حجج وأهمية وخاصة أن الدول الأخرى تركت الحرق والطمر واعتمدت حل الفرزمن المصدر وتحويل النفايات من نقمة إلى نعمة والابتعاد عن حجة ان هذا الملف حلم وردي!! هكذا قالوا لنا منذ أحد عشر عاماً وكتابي وأدبيات جمعيتنا”طبيعة بلا حدود” شاهد على ذلك! وكان الوزير يرد بأن الأمور كلها مدروسة وان شاء الله لن يدخل عنصر المفاجأة السلبية عند اقفال مطمر الناعمة!!

بالأمس طوفان الاف الأكياس فوق نهر من مياه الأمطار كشف ورقة التوت التي كانت تغطي عورة المسؤولين بالأمس كان حلم ينهار هو حلم الشعب كله…كل شيء تصوّرناه إلا أن يصل الإستهتار بعدم استباق هذه الكارثة البيئيّة بامتياز! قالوا لي أين صوتك يرعد كالماضي أثناء هذه الأزمة البيئية الخانقة؟؟ جوابي هادىء وبثقة كاملة:يكفي الشاشات أبطال وخبراء بيئة ومشخصاتيون بعد ناقصهم محمود الأحمدية؟؟ يكفينا ضميريّاً أننا وعبر المدارس نرسي ثقافة الفرز من المصدر ونتواصل عبر الطلاب والأجيال الجديدة بعيداً عن الهوبرة وادعاء البطولات…مثقال ذرة عمل على أرض الواقع تتجاوز أطنانا من الكلام والدون كيشوتية…

بالأمس المنظر المرعب الذي يخفي خلفه نفسية التقاعس والطريقة الغير حضارية والغير علمية وهي وفي كل الملفات البيئية معالجة النتائج تحت ضغط أخطارها بدون العودة إلى ارساء خطط طوارئية واستراتيجيات تقوم بها كل دول العالم المتقدم وغير المتقدم فليس من البطولة بمكان إستباق ملف النفايات قبل أن يتعملق ويتضخم ويُقزِّم معه المسؤولين؟ وليس من البطولة أن ننفذ خطة طوارئية لاستباق الحرائق وهذا ليس خروجاً عن موضوعنا دائماً نعالج النتائج تحت ضغط أخطارها… للمعلومة فقط هناك حوالي 2000 مكب يرصعون الوديان والجبال والوهاد والطرق والمدن والقرى من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال وخطرها مزدوج وبايجاز: اذا كانت البيئة ماء وهواء وتربة فهذا الثالوث تعرض وعلى مدى الأربعة شهور إلى تلوث حقيقي وعلى مستوى الوطن كله وأصبحت النفايات الملوث الرئيسي للهواء وقبل النقليات وتصبح أشد خطراً عند حرقها وتسببها بشتى أنواع السرطانات والمياه الجوفية مهددة بالتلوث المرعب والتربة وهناك خطر التفكك وفقدان كل خصائصها عدا عن الأمراض والأخطار البيئية…

مثل صغير مرعب ومخيف: إذا ترك زوج من الفئران على مكب نفايات كي يتزاوج فيصبح خلال ستة شهور ستماية ألف فأراً!! وإذا ترك زوج من الذباب كي يتزاوج يصبح بعد ستة شهور 3 بليون ذبابة تحمل 2 بليون ميكروب و 43 مرضاً تنقله ليلاً نهار لكل شيء تلمسه!! نعم هي أرقام مخيفة ولكن حتى نتحسس جميعاً أخطار هذه النفايات.

بالأمس نهر النفايات أغرق معه كل الضمائر الميتة وكانت حفلة تعري حقيقية لواقع حكومي مزري وكل من اشتغل سياسياً في هذا الملف سيأتي يوم من الأيام ويحترق ببعدين: ضميرياً أمام خالقه وشعبياً أمام ظلمه للناس!

أخيراً تكلمنا كثيراً عن الحلول ووضعناها أمام المسؤولين وناشدناهم عبرالمرئي والمقروء والمسموع ولن نكرر أنفسنا فلم نخترع الذرة ودول العالم أجمع تتبنّى الحل القدري الأوحد: الفرز من المصدر، أما الآلية فموجودة ولكن الآذان مسدودة!

بالأمس نهر النفايات… هولاكو مرّ من هنا هولاكو الجهل هولاكو الإستهتار هولاكو البطر هولاكو من نوع جديد ومن ورق ستحطمه يوماً من الأيام سواعد كل المعذبين في وطني.

—————————–

*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!