العرب في انتظار المصير المجهول؟

عرفان نظام الدين (الحياة)

عندما أطلق الفنان السوري الكوميدي الراحل نهاد قلعي (حسني البورَزان) مقولته الشهيرة: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا… علينا أن نعرف ماذا في البرازيل»، حوّلها العرب إلى مادة للسخرية والتندر والتساؤل عن الرابط بين أوضاع البلدين باعتباره من عالم اللامعقول.

ومع الأيام، اكتشفنا صوابية هذه المقولة في ديارنا غير العامرة، بلاد المعقول، ولكن ليس بما يتعلق بإيطاليا والبرازيل، بل بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالعرب وقضاياهم على مدى السنين وخصوصاً خلال السنوات الخمس المنصرمة وما شهدناه فيها من مآس وقتل ودمار وتدخلات من كل حدب وصوب. فقد جرى تسليم مفاتيح المنطقة لكل من هب ودب من أجانب وإقليميين مسلمين وغير مسلمين، من دون أن نغفل إسرائيل ومؤامراتها المتواصلة لتهويد فلسطين وتفتيت الدول العربية للإمساك بزمام الأمور بين دول ضعيفة منهكة ومتصارعة، تصبح بعدها الآمر الناهي واللاعب الأول والقوي.

فما من قضية عربية اليوم إلا وتتحكم بمسارها جهة خارجية، وما من أزمة إلا ومفاتيح حلها في يد الآخرين، وما من حرب إلا وقرار إطفاء نيرانها أو إشعالها بإشارة من القوى الطامعة والساعية للهيمنة على مقدرات البلاد والعباد، وما من فتنة إلا وأزرار تفجيرها تتحكم بها الأصابع المستفيدة منها… حتى بتنا نقتنع بأن عرب اليوم لا حول لهم ولا قوة في عقر دارهم، وأنهم أصبحوا مسيّرين لا مخيرين، ليس من الله عز وجل، بل من كل من هو غير عربي، وما عليهم سوى الاستسلام والقبول بمرارة الأمر الواقع والعمل بمقولة (البورَزان) محرّفة لتصبح: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في بلاد العرب… علينا أن نعرف ماذا في بلاد العجم، إلى أي جهة انتموا، وماذا يخطط لهم في الخارج».

صحيح أن هذه العلة قديمة، قدم الشرق وقدم أطماع الغزاة بهذه المنطقة وثرواتها وإمكاناتها الدفينة وموقعها الجغرافي، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت شراسة بلا حياء ولا خجل، فالمؤامرات معلنة ومغلفة بشعارات براقة وتقاسم مناطق النفوذ والمصالح، على عينك يا تاجر، في بازار عالمي وإقليمي، فيما العرب يجلسون متفرجين على مائدة اللئام يسمعون الهمس وبعدها يتلقون البلاغ، وما عليهم بعده إلا الرضوخ والتنفيذ والسمع والطاعة.

وصحيح أن الدول الإقليمية والأجنبية لعبت أدواراً كثيرة لفرض الهيمنة على الدول العربية، من الفرس إلى الصليبيين والعثمانيين وأيام حكم القناصل، ثم لا نغفل كيف ضحك الإنكليز على العرب عندما حرّضوهم على الثورة ضد الامبراطورية العثمانية، التي حملت اسم الثورة العربية الكبرى، ثم خانوهم بعدما تحقق لهم ما أرادوا، ومن ثم قسموا بلادهم في شكل عبثي بدلاً من تنفيذ وعودهم للشريف حسين بتتويجه خليفة على الدولة العربية الموحدة. وكان ما كان بعد ذلك من استعمار وهيمنة ونهب للثروات وتأجيج لنار الفتن… إلى أن وصلنا إلى ما نعيشه هذه الأيام.

وحتى إيران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي كانت تقوم بدور شرطي الخليج وتسعى إلى الهيمنة على المنطقة بأسرها قبل أن تتغير الوجوه ويجري تبادل الأدوار لتعود إيران إلى أحلام الامبراطورية الفارسية وأوهام الهيمنة تحت عنوان آخر، وهو «تصدير الثورة». وها نحن اليوم نواجه حرباً على جبهتين: سياسية في صد محاولات بسط النفوذ على بعض الدول العربية، ومذهبية بتأجيج نيران فتنة سنية- شيعية لا يعرف إلا الله عز وجل كيف ستخمد في حال انطلاق شرارتها الأولى. ولهذا نجد أن معظم الأزمات والحروب العربية الراهنة مرتبطة في شكل أو في آخر بقرار إيراني- دولي، وأميركي على وجه التحديد، بينما يقف العرب متفرجين على تمثيلية على مسرح عبثي كأن الأمر لا يعنيهم ولا يتعلق بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، أو كأنهم سلموا أمورهم وكرامتهم للآخرين، متوهمين بأنهم ارتاحوا وأزاحوا الأعباء عن عاتقهم ومن بينها الحل والربط وإنقاذ الأرض والعرض، فبدلاً من أن يناضلوا ويتحدوا ويعملوا ويتكلوا على الله… اتكلوا على الأجنبي!

وعندما تسأل عن الحل في أية قضية، يأتيك الجواب بأن عليك انتظار المصير المجهول ومعرفة رأي إيران أو غيرها من الدول. فالكل ينتظر نتائج مفاوضات الملف النووي الإيراني، ففي حال جرى التوصل إلى اتفاق، فإن علينا أن نتوقع الفرج قريباً إلا إذا كانت هناك اتفاقيات تحت الطاولة لإشراك إيران في تقرير مصير قضايا المنطقة.

أما إذا تعثرت المفاوضات، فإن علينا انتظار الويل والثبور وعظائم الأمور، ومعه التصعيد على مختلف الجبهات، من لبنان إلى سورية ومن العراق إلى اليمن.

فجميع القضايا العربية، وخصوصاً الملتهبة منها، تعيش اليوم على مفترق طرق بين نيران الحروب التي يساهم في تأجيج نيرانها الآخرون، وثلاجة الحلول التي لن تذيب جليدها إلا بإذنهم. حالة جمود كامل على كل الصعد، فلبنان مثلاً يغرق في ظلمة الفراغ العام والشلل التام ويقترب من الموت الزؤام بسبب حروب الآخرين وتدخلاتهم: انتخاب الرئيس ينتظر القرار الإقليمي وموقف «حزب الله» المرتبط به، وتفعيل عمل الحكومة يحتاج إلى كلمة سر خارجية، وفتح أبواب مجلس النواب يحتاج إلى مفتاح يصنعه الاتفاق على الملف النووي الإيراني، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التعيينات والأمن المتأرجح، بانتظار كلمة السر بكل اللغات، وفي مقدمها اللغة الفارسية (خوش أمديد)، والفتنة نائمة حيناً ومستيقظة حيناً آخر على رعب الكوابيس، لعن الله كل من يعمل على إيقاظها.

أما الانتظار الآخر، الصعب والطويل، فيتعلق بمآل الحرب السورية، مع جزم كل الأطراف بأنه لا حلول ولا آمال إلا بحسم معارك الميادين سلباً أو إيجاباً. أما الانتظار الثالث والأخطر، فيتعلق بالحرب على الإرهاب ومصير المعارك المشتعلة على جبهة القلمون وجرود عرسال، فأي خلل في المعادلة سيقلب الموازين ويشعل نار فتنة وبصورة خاصة دخول عرسال من جانب «حزب الله» أو أي طرف آخر، أو تمدد «داعش» و «النصرة» داخل القرى والمدن اللبنانية.

وسورية، بدورها، تنتظر مصير المعارك على مختلف الجبهات، مع المعارضة ثم مع «داعش» و «النصرة»، من عرسال إلى الحسكة ومن تدمر إلى السويداء. وبعدها تتضح الصورة ويتحدد مصيرها ومدى قدرتها على الصمود وضرب مخططات التقسيم. وهذا بدوره ينتظر نتائج الحرب على الإرهاب في شمال سورية والعراق، واحتمال فرض حظر جوي، وقبل كل شيء مصير الملف النووي الإيراني وملامح الموقف الروسي ومفاعيل التطورات في تركيا في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة.

أما العراق، فيقف في الصف على محطة الانتظار الممل لمعرفة مصيره ومستقبله وسلامة وحدة أراضيه المهددة بالتقسيم. وهي مفاصل ممسوكة كلها من جانب الآخرين، بدءاً من إيران التي تلعب دوراً رئيساً في العلن بعد سنوات من العمل من وراء الكواليس لفرض الهيمنة على مقاديره.

وفي المقلب الآخر يطول الانتظار في شأن الحرب على «داعش» وتحرير الأراضي التي يسيطر عليها الإرهابيون، ومعظمها تقطنها الغالبية السنية، وأي تأخير في الحسم يفرض أمراً واقعاً مؤسفاً، خصوصاً أن قوات التحالف لا توجه حتى الآن ضربات موجعة تضرب المخطط المشبوه الذي يمتد خطره إلى مختلف الدول العربية.

ومع كل هذا التراكم في التعقيدات، فإن هناك توجساً من موقف الأكراد وتخطيطهم للانفصال واستغلال هذه الفرصة الذهبية لفرض الأمر الواقع بدعم خفي من قوى دولية. كما أن الانتظار لا بد أن يشمل تركيا لمعرفة قرارها الواضح في مواجهة المخطط ومنع قيام كردستان المستقلة على حدودها.

واليمن، غير السعيد، يعيش حالات مشابهة تتعلق بالملف النووي الإيراني، بعدما ثبت تورط إيران في شكل واسع في دعم الحوثيين وحليفهم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح لاستغلالهم كورقة في المفاوضات أدى إلى شن عملية «عاصفة الحزم» الرامية إلى إحباط مخطط الهيمنة على البلاد وضمها إلى أوراق أحلام الإمبراطورية الفارسية. كما يتعلق الانتظار بمدى قدرة القيادات اليمنية على الإمساك بزمام السلطة وإعادة بناء البنى التحتية المنهارة والحفاظ على وحدة البلاد بعد ازدياد أخطار التقسيم والتفتيت، إضافة إلى الحرب المصيرية ضد الإرهاب الذي ازداد قوة وانتشاراً وتسلحاً بشقيه «القاعدي» و «الداعشي».

ومصر التي تمر بمرحلة انتقالية صعبة على مختلف الصعد تنتظر، بدورها، حسم المعركة على الإرهاب في سيناء وخارجها، ثم في مدى القدرة على تدجين «الإخوان المسلمين»، مع التذكير بانتظار آخر يتعلق بمشاركتها في شكل أو في آخر بما يجري في اليمن ودعم المواقف الخليجية في مواجهة التغلغل الإيراني.

والأخطر من ذلك كله بالنسبة إلى مصر هو انتظار نتائج الحرب الدائرة رحاها على أرض ليبيا بين الجيش الوطني الموحد والتنظيمات الإرهابية المتعددة، من «داعش» و «القاعدة»… وغيرهما من القوى الإسلامية والقبلية المتصارعة، فالأمن القومي المصري مهدد ومرتبط بمدى قدرة الجيش على كسر شوكة هذه القوى وتحرير المدن التي تسيطر عليها.

ومع مصر تنتظر دول المغرب العربي (المغرب والجزائر وتونس)، بلهفة وقلق، مصير الحسم الليبي، لأن أي فشل سيغير اتجاه الرياح ويحولها عواصف عاتية تجتاح المنطقة بأسرها وتقلب الموازين وتهدد أمنها ومعه الأمن العالمي، وخصوصاً أمن أوروبا التي تقع على مرمى حجر من البركان المشتعل.

أما إسرائيل، فتنتظر بسعادة وتنظر بشماتة إلى ما يجري في الدول العربية وتتنفس الصعداء وهي تمني النفس بتقسيمها ودمارها وتدمير قوتها وهدر ثرواتها. لكنها على عكس العرب، لا تجلس متفرجة، بل تعمل وتتآمر وتهوّد وتبني المستعمرات وتهدد المسجد الأقصى وتقتل وتأسر وتعتدي من دون رادع، لكي تكمل مؤامرة القضم والضم والقضاء على آمال الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة الموحدة، فيما التشرذم الفلسطيني يتواصل والتقسيم الفعلي يزداد رسوخاً والشرخ بين «فتح» و «حماس» وبين غزة والضفة الغربية يتسع وينذر بضياع القضية وأصحابها.

إنها حالة انتظار صعبة وخطيرة لولادات متعسرة يضع فيها كل عربي يده على قلبه خوفاً على المستقبل. فالكل ينتظر، والعرب أصحاب القضية والمصير يتفرجون بعدما أدمنوا مخدرات الاستسلام وساهموا في شكل أو في آخر في ما خططه لهم الأعداء من دمار وتفتيت وأحقاد وتطرف وفتن، مع انتظار الحلول من الآخرين، وأخشى ما أخشاه أن يكون كـ «انتظار غودو» الذي لن يأتي أبداً!