الأعاصير التقسيمية تعربد في المنطقة عشية «النووي»!

عادل مالك (الحياة)

لو لم تكن هناك مدينة تدعى جنيف في سويسرا التي تحتضن الأطراف المتصارعة من كل لون ونوع، ما كان مصير النزاعات التي تعصف بدول العالم، خصوصاً دول الشرق الأوسط؟

إنه موسم الحجيج السياسي إلى ضفاف تلك البحيرة الساحرة التي تستوعب كل الخلافات والنزاعات الإقيمية والعالمية، كما «تستوعب» أموال العالم على اختلاف الدول والعملات.

وشهدت جنيف في الأيام القليلة الماضية الكثير من اللقاءات بين أطراف متنازعة، ونسعى في أن نركز في مقال اليوم على مؤتمر «جنيف اليمني». وفيما شهد مقر الأمم المتحدة الكثير من السجالات الصاخبة كانت نيران «عاصفة الحزم والأمل»، لا تزال مشتعلة على أرض الميدان.

ماذا جرى ويجري في اليمن؟

يبدو أن مقولة الإمام الشافعي «لا بد من صنعاء مهما طال السفر» صحيحة في ماض غابر وواقع معاصر لليمن الذي كان ذات يوم سعيداً. ولعل من المفيد استحضار بعض السجلات القديمة العهد في سعي إلى الاضاءة على فهم ما يجري، وهنا أشير إلى المقابلة التي أجريتها مع الملك فيصل بن عبدالعزيز قبل ما يزيد على نصف قرن، وأعدت التذكير بها في «الحياة» (4 نيسان – إبريل 2015). يعود تاريخ اللقاء إلى 1964 حيث كانت الحرب مستعرة في اليمن إثر الانقلاب الذي أطاح الإمامة وأعلن قيام نظام جمهوري.

سألت الملك فيصل: كيف توصّف الوضع في اليمن؟

أجاب: «لقد دعونا جميع الأطراف إلى الخروج من هذه المشكلة. لكن، ما الذي حدث؟ لقد توقفنا عن مساعدة الإمام البدر، فإذا بالفريق الآخر (الجمهورية العربية المتحدة) لم ينسحب فحسب، بل وسع تدخله وأباح لنفسه التدخل السافر بحجة الرد على التدخل الحاصل من جانب المملكة العربية السعودية. أما الاتفاق الخاص في الشأن اليمني ففتش عنه في أدراج الأمم المتحدة».

وهنا سألت: إن توقفكم عن مساعدة الإمام البدر يعني أن المملكة قدمت له المساعدة في ما مضى؟

الملك فيصل: نعم، قالوا إننا ساعدنا الملكيين، نقول: نعم ساعدناهم، لكننا استندنا في تقديم المساعدات إلى اتفاق معقود بين المملكة العربية السعودية بشخص الملك سعود، والجمهورية العربية المتحدة بشخص الرئيس جمال عبدالناصر، واليمن بشخص الإمام أحمد.

سألت: تتحدث بعض الأوساط العربية عن مشروع وساطة بينكم وبين الرئيس عبدالناصر لتسوية النزاع في اليمن من طريق اعترافكم بها على غرار ما فعل الأردن؟

رد الملك فيصل: هناك جمهورية في اليمن أو أنها هي التي قالت عن نفسها أنها جمهورية. وفي اعتقادنا ليس هناك جمهورية، بل هناك حكومة قوتها على المحك، فإذا هي أثبتت وجودها نعترف بها وإلا…

قلت: إذاً ما زلتم تعتبرون أن الإمام البدر هو الشرعية في اليمن، فهل إذا طلب منكم الإمام الحصول على مساعدات عسكرية هل تستجيبون؟

جواب: عند ورود الطلب يعود أمر البت به إلى مجلس الوزراء، يجتمع وندرس الطلب ثم نقرر… وعلى كل حال إذا منحنا الإمام البدر المساعدات، فلن يكون ذلك تدخلاً، بل إنه تنفيذ للاتفاق المعقود بيننا.

سألت: هل طلب الإمام البدر مساعدتكم فعلاً؟

الملك فيصل: في البداية طلب واستجبنا، ولكن حتى الآن لم يطلب… وإنني أؤكد لك أن ما من جندي سعودي تجاوز الحدود قيد شعرة، بينما ترى العشرات والألوف يتجندلون في هضاب وفي وهاد اليمن، هم أعزاء علينا وإخوان لنا. ثم هل تظن أنه سيكون في النهاية من رابح أو خاسر؟ الكل خاسرون، والحل الذي دعونا إليه لا ينظر إلى شعار الغالب والمغلوب… لكن ماذا تريدني أن أفعل؟

سؤال: بعد سنتين على قيام حرب اليمن والمضاعفات الخطيرة التي أدت إليها، ما موقفكم من هذه المشكلة وما هو الحل؟

رد الملك فيصل بــ «حزم وحسم»: إن حرب اليمن لليمنيين والحل يحب أن يكون لليمنيين أنفسهم، في فئاتهم المتناحرة والمتقاتلة، فما لنا نحن ولهذه المشكلة؟ قلناها مراراً وأقولها اليوم: لا علاقة لنا البتة بالمشكلة اليمنية. تسألني عن الحل؟ أجيبك: أنه مرتبط بالوجود المصري في بلاد اليمن، أما الحل الذي اقترحناه في ما مضى فهو انسحاب جميع الجيوش الأجنبية من اليمن وإفساح المجال للمواطنين اليمنيين ليقولوا كلمتهم في حركة المصير، فإن قالوا: جمهورية فلتكن جمورية… وإن قالوا ملكية فليعد الإمام البدر.

وهنا استوى الملك فيصل في مقعده وقال: أتعلم؟ قلت: ماذا؟ قال: مئتا ألف جندي يمني من «الجمهوريين» و «الملكيين»، من النساء والرجال والأطفال، قتلوا جميعاً، إضافة إلى عشرين ألف جندي مصري أيضاً وأيضاً قتلوا حتى الآن.

هذه هي حصيلة حرب اليمن، فعلام الاختصام والاقتتال؟ في سبيل تحرير اليمن؟ يا ليت هذه الدماء هدرت في سفوح «تل أبيب». أضاف: ماذا يجري في اليمن؟ كل العرب يتكلمون عن اليمن ولا يفقهون شيئاً عن كل ما يجري فيها.

قلت: أما وقد وصلت المأساة إلى ما هي عليه، فماذا تقترحون عملياً؟

أجاب: لا أقترح حتى لا أُتهم بالتدخل لذلك سأكتفي بتأكيد ما قلته لك سابقاً.

إلى هنا انتهى الحوار مع حكيم العرب الملك فصيل بن عبدالعزيز (حول اليمن) لينشر صبيحة اليوم التالي، الأول من أيلول (سبتمبر) 1964، ولتتناقله وكالات الأنباء المحلية والعالمية، بخاصة لجهة الكشف عن أن أكثر من عشرين ألف جندي مصري قتلوا في اليمن، ويشن الإعلام المصري أعنف الحملات على الملك فيصل.

أردنا من استحضار اللقاء مع الملك فيصل الإضاءة على نقاط مشتركة بين الأمس واليوم، بخاصة التركيز على أبعاد تدخل أجنبي في الشؤون اليمنية الداخلية، وهذا العامل ساهم في تمزيق اليمن بالأمس، وتشرذم الفصائل اليمنية في الحرب الدائرة. وبعد تواصل المواجهات العسكرية في ما يقرب المئة يوم أعربت مصادر مواكبة عن قرب للشأن اليمني عن مخاوف من أن يتحول ما يشهده اليمن إلى «حالة استنزاف».

وبين تصورات الملك فيصل بن عبدالعزيز (1964) والملك سلمان بن عبدالعزيز (2015) نقاط محورية مشتركة بالنسبة إلى «الحالة اليمنية»، إلا وهي معارضة أي تدخل أجنبي في شؤون اليمن الداخلية.

بدأنا بجنيف وننتهي بها لنلاحظ أن التصلب في المواقف قلل فرص نجاح الحلول السياسية للأزمة اليمنية، بخاصة لجهة إصرار أعضاء وفد الحوثيين وجماعات الرئيس السابق علي عبدالله صالح على التمسك بشروط غير مقبولة من الجانب السعودي وممن يمثل الشرعية اليمنية حتى اندلاع الأزمة، ما اضطر الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي للإقامة في جدة مع عدد كبير من الوزراء والمعاونين، وانتظار ما ستؤول إليه مداولات التوصل إلى حل. وأقصى الطموحات هدنة إنسانية قد تمهد لحل بعيد المدى لكن الوضع أكثر تعقيداً بالتأكيد.

وفي سياق متصل بالشأن اليمني لا بد من التوقف عند لقاء جدة على هامش مؤتمر الدول الإسلامية بين وزير الخارجية السعودي عادل الجبير والمندوب الإيراني إلى المؤتمر عبد اللهيان، واعتبر مجرد اللقاء بين مسؤول سعودي رفيع مع مسؤول إيراني في هذا التوقيت بالذات هو الحدث، نظراً إلى الدور الإيراني الداعم بشتى الوسائل للحوثيين.

وفي جانب آخر للأزمة يجرى التداول ضمن مرجعيات معنية في هذا الشأن بمعلومات على جانب كبير من الأهمية، إذ ترسم خريطة جديدة لليمن وهي مقسمة إلى ستة أقاليم مختلفة. وتتحدث المعلومات عن «يمن جديد مقسم» مع الأعاصير التقسيمية التي تعربد في مختلف دول المنطقة وتضعها عند المنعطف الخطير حيث بلوغ مخطط تقسيم دول المنطقة بالتدريج وفق خرائط جديدة لإعادة توزيع مناطق النفوذ في المنطقة «مرحلة متطورة»؟

في جانب آخر: ما آخر أخبار «النووي»؟ فالعد العكسي بدأ (مرة جديدة) لبلوغ يوم 30 حزيران (يونيو) الجاري. والمفاوضات بين الأطراف المعنية تمارس الضغوط النفسية المتبادلة في ربع الساعة الأخير من الانفراج أو الانفجار. وفشل المفاوضات مشكوك به لأن أطرافها كافة تريد التوصل إلى اتفاق، على رغم صدور تصريحات تشير إلى احتمال تأجيل الموعد بضعة أيام لا أكثر. وما يجري في اليمن لا يحجب الرؤيا والرؤية عن هموم المنطقة الأخرى، خصوصاً ما يجري في سورية، وما تشهدة ليبيا والعراق، واللائحة تطول.

وفي ما يتصل بالمشهد العراقي، يبدو أن تطورات الأسابيع الأخيرة على الصعيد الأمني المتفجر، أرغمت الرئيس باراك أوباما على اتخاذ قرار بإرسال 450 من الضباط والأمنيين الأميركين إلى العراق، والهدف المعلن تدريب العناصر الأمنية العراقية. لكن هناك أزمة ثقة بين بغداد وواشنطن. ويتضح من هذا التطور تغير أوباما الذي سارع إلى سحب قواته من العراق وتعهد بعدم إعادة التجربة، قبل التفجرات على الساحة العراقية في ضوء «اجتياحات» «داعش».

أما على جبهة سورية فهناك تطور إعلامي يعكس الواقع الميداني ويتمثل بتوزيع «وكالة الصحافة الفرنسية» صورة تظهر رئيس أركان الجيش السوري مصافحاً عناصر من «حزب الله» المشاركين في القتال إلى جانب قوات النظام. وهذه «الإيماءة» الإعلامية لها دلالاتها من حيث إشهار العلاقة النضالية والجهادية بين «حزب الله» والجيش النظامي السوري، ولاحظ مراقبون توقيت نشرها بعد الحديث عن «إنجازات» لوجيستية حققتها عناصر الحزب وعناصر الجيش.

هذا التطور لا يحجب التطورات العسكرية الأخرى سواء في حلب أو على سائر الجبهات. فصيف المنطقة حار حار، والآتي على دولها أسوأ مما هو قائم.

اقرأ أيضاً بقلم عادل مالك (الحياة)

تغييب «الخليجي» و «الجامعة» … والبديل منظومة أمنيّة

مَن يستدرج مَن: واشنطن ترامب أم طهران؟

سورية: «انتهت» الحرب … ولبنان في الضوء الأحمر

التغييرات في خرائط المنطقة وفقاً لمراجع أميركية

روسيا تكشف المستور: نعم نتشاور مع إسرائيل!

زمن أميركا أولاً… ظالمة أو مظلومة؟

لبنان – المنطقة – العالم: بين الراحل والآتي

هل يتمدد النزاع في سورية بين سوريي الداخل ولبنان والجوار؟

الإمام موسى الصدر: بدعة لا غالب ولا مغلوب؟

… وهبّت رائحة النفط على لبنان: نعمة أم نقمة؟

عن «حصة الأسد» للأسد والباقي… تقسيم!

سورية بين «الذكاء» الروسي و«التذاكي» الأميركي!

… وماذا عن توطين النازحين اللبنانيين؟

الوضع في منتهى الخطورة… ما أشبه يوم العرب بأمسهم!

سورية: عشية «هدنة إنسانية» بعد التصعيد الخطير!

سورية: الحرب الصعبة والسلام المستحيل!

عكس السير والمنطق: تأجيج حروب… الحل!

عن ارتدادات ريختر الحريري: قبل أن يقرر عن اللبنانيين

عن حرب السنتين في لبنان: بين «سلام اليوم» وحروب الأمس!

المنازلة المبكرة بين «القيصر» بوتين و «السلطان» أردوغان