الحراكات الشبابية الفلسطينية في لبنان بين “العودة” و”تحسين مستوى المعيشة”

تسعى هذه المقالة للإضاءة على الحراكات الشبابية للاجئين الفلسطينيين في لبنان: دوافعها واهتماماتها واحتمالاتها وعلاقاتها بالفصائل الفلسطينية، ونظرتها إلى “حق العودة”.

يعتبر لبنان نموذجاً خاصاً بما يتعلق بالوجود الفلسطيني: الشعبي والسياسي. وتأتي فرادته في هذا الشأن من كونه البلد العربي الوحيد الذي وضع أثقالاً وقيوداً على حركة الفلسطينيين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، قبل أن ينهار جراء الحرب الأهلية اللبنانية في 1975 كنتيجة لانقساماته الطائفية، وتنهار معه كل تلك الأثقال والقيود إلى درجة الفوضى، ثم ليستعيد لاحقاً بعض سلطته بمساعدات خارجية: إسرائيلية تارة وعربية ودولية أطواراً، وتكون النتيجة ـــ فلسطينياً ـــ مزيداً من الأثقال والقيود. ووسط كل تلك الحالات، كان الشباب الفلسطيني يعيش في دوامة المنع من التحرك السياسي والاجتماعي ـــ لبنانيا، أو تذويب خصوصيته ـــ كمجتمع لاجئين له خاصيته اللبنانية ـــ في سياق التيار العام الفلسطيني (Mainstream).
تعتمد هذه المقالة على التجربة الخاصة لي بالعمل الشبابي الفلسطيني في ثمانيات القرن الماضي الذي كان جزءاً لا يتجزأ من العمل الفصائلي، وعلى متابعتي للحراك الشبابي الناشط حالياً ومعرفتي الشخصية بعدد من الشابات والشبان الذين يخوضون تجربة شبابية مستقلة عن عمل الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً عبر جمع شهادات لناشطات ونشطاء.

محاولة للخروج من الفشل
يمكن اعتبار الثلث الأخير من تسعينيات القرن الماضي بداية تبلور الحراك الشبابي الفلسطيني غير المرتبط بالفصائل الفلسطينية، إذ بدأ في حينه الإحباط يزداد بين الشباب نتيجة فشل الفصائل في التقاط اللحظة والخروج من فكرة “التيار العام” بالنسبة للقضية الفلسطينية الذي يهمش الخصوصية المكانية والاجتماعية للاجئين، وعدم قدرة تلك الفصائل على تقديم أي بديل للاجئين الفلسطينيين في لبنان في زمن السلم، بعدما كانت قد خسرت الحرب بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 وانقلاب الحلفاء “الوطنيين” على الفصائل الفلسطينية، وهو ما عكسته حرب المخيمات في 1985 ـــ 1987، وتبعية الفصائل للنظام السوري الذي أعاد نشر جيشه في لبنان مطلع تسعينيات القرن الماضي، وعدم قدرة الفصائل على جعل قانون العفو العام الذي أقر في اتفاق الطائف وصوت عليه البرلمان اللبناني، يشمل الفلسطينيين، وفشلها أيضاً في تأمين الحقوق المدنية والاجتماعية للاجئين، على الرغم من ارتباط تلك الفصائل بالنظام السوري ـــ الحاكم الفعلي ـــ وبتوافق دولي وعربي للبنان.
بدأ الحراك الشبابي بالظهور في شكله الجديد اعتباراً من سنة 2007، كنتيجة للمعارك التي شهدها مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وتنظيم “فتح الإسلام” وما تبعه من تدمير كامل للمخيم، وعدم وفاء الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي بتعهداتهما إعادة بناء المخيم، وفشل الفصائل الفلسطينية في الضغط من أجل إعادة البناء، وفشلها في تشكيل حاضنة للشباب الفلسطيني الذي بدأ يصعّد من مطالبه بتأمين حقوقه المدنية والاقتصادية. كما جاء انتشار الحراكات الشبابية بعد انطلاق ما يسمى بـ”الربيع العربي”، مدعوماً بانتشار “فطري” للمنظمات غير الحكومية الممولة عبر برامج تمويل غربية للمنظمات غير الحكومية المحلية، واستفادة من برامج التدريب على حقوق الإنسان وبناء القدرات… الخ!! ـــ وفي دلالة على تأثير المنظمات غير الحكومية في الحراكات الشبابية، يقول وسيم، أحد المؤسسين لـ”الشبكة الشبابية الفلسطينية في لبنان”، أن كثيراً من الشبان ان كان في الشبكة أو في حراكات شبابية اخرى تلقوا دورات تدريب لدى منظمات غير حكومية.
الشباب الفلسطيني 1
الشبكة الشبابية كمثال
يمكن الاستدلال على ذلك من خلال منشور لـ”الشبكة الشبابية الفلسطينية في لبنان”، المنضوية فيها حراكات شبابية عدّة، تحت عنوان: “واقع شبابي جديد”، وتقول فيه “تزامنت فكرة الشبكة الشبابية الفلسطينية إستجابة لظروف موضوعية، مع برزو عدد من المبادرات الشبابية في معظم المخيمات الفلسطينية في لبنان، والتي من الممكن أن يكون للإنتفاضات الشبابية العربية دوراً محفزاً على الرغم من الإختلاف في طبيعة وضع الشباب الفلسطيني كونه إما تحت الإحتلال أو أنه لاجئ تحكمه قوانين مجحفة تحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية خاصة في لبنان، والذي فاقم منعه من حق العمل وحق التملك وحرية التنقل من معاناته، إضافة الى الواقع السياسي المزري الناتج عن إنسداد افق السلام والإنقسام الحاد على المستويين السياسي والمجتمعي، وتردي الأوضاع الأمنية والإدارية والخدماتية في المخيمات”.
والشبكة التي تمثل حراكات شبابية في مخيمات شمال لبنان (البارد والبداوي) وبيروت (شاتيلا وبرج البراجنة) وصيدا (عين الحلوة) وصور (الرشيدية وبرج الشمالي والبص)، وتؤكد انتماءها لـ”التيار العام” رغم إصرارها على التنبه لخصوصية وضع اللاجئين في لبنان، ترى أن “القيادة الفلسطينية في لبنان بمختلف أوجهها ولا نستثني احداً اطلاقاً، باتت أصغر بكثير مما نصبو اليه، وليس خفياً على أحد مستوى العجز والتراجع والفساد الذي أمعن فيها حتى وصلنا إلى ما نحن فيه. لستم جبناء ولستم خونه ولن نسمح أن يقال عنكم كذلك، نعم لقد ضاقت بنا السبل”.
ولأن الكثير من الحراكات الشبابية، هي عملياً مقتصرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أكتفي بما أوردته من منطلقات وأهداف “الشبكة الشبابية الفلسطينية في لبنان” الموجودة ميدانياً وعلى شبكة التواصل الاجتماعي، مع الإشارة إلى الأندية الثقافية في المخيمات والجامعات التي تلعب دوراً ثقافياً أكبر من دورها السياسي والاجتماعي، وهي ممثلة في “هيئة تنسيق عمل الأندية الثقافية الفلسطينية المستقلة”، ولها صفحة مشتركة على موقع “فايسبوك”، تتشارك الأفكار والنشاطات والدعوات والتعرف أكثر على بعضها البعض. والمشاركون هم: النادي الثقافي الفلسطيني العربي؛ النادي الثقافي الفلسطيني في الجامعة الأميركية؛ النادي الثقافي الفلسطيني في الجامعة اللبنانية الأميركية؛ النادي الثقافي الفلسطيني في جامعة بيروت العربية؛ النادي الثقافي الفلسطيني ـــ شاتيلا.

لا عودة.. لنحسن واقعنا
يجمع الكثير من الشباب الفلسطيني غير المرتبط بالفصائل على استحالة العودة، ما يجعلهم يركزون على تحسين الأوضاع المعيشية داخل المخيمات.
وإذا كانت سلسلة الخسائر والهزائم التي منيت بها الفصائل ميدانياً أمام إسرائيل والمليشيات المسلحة في لبنان قد مثلت، إلى جانب فشل عملية السلام، عنصراً من عناصر الإحباط بشأن العودة إلى فلسطين، فإن استخدام “حق العودة” من قبل فصائل فلسطينية وأحزاب لبنانية لها خلال مسيرة “العودة” انطلاقاً من جنوب في لبنان في 15 أيار / مايو 2011 ومن الجولان في سوريا في 5 حزيران / يونيو ، شكلت إحباطاً جديداً. فبعد مسيرة العودة من جنوب لبنان، أبلغني أحد الشباب المنتمين إلى أحد الفصائل أنه اكتشف والشباب المستقلّين الذين كانوا يحضرون اجتماعات لتنسيق المسيرة، أن الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية المشاركة، عملت على استغلال المناسبة للتأثير على مجريات الأمور في سوريا، وأنهم بسبب ذلك رفضوا لاحقاً القيام بمسيرة في 5 حزيران / يونيو، خصوصاً أن الضحايا الذين سقطوا والجرحى في مسيرة “العودة” بدأت الفصائل تتسابق على تبنيهم، ما أوجد حالة من “القرف” دفعت هذا الشاب المتحمس لفصيله، لاحقاً، إلى الاستقالة، ثم الهجرة. أما مسيرة 5 حزيران / يونيو في الجولان فكانت كارثة حقيقية حيث سقط عدد من الشهداء بينهم فتاة، وخلال تشييعها في مخيم اليرموك طرد المشيعون مسؤولي الفصائل واشتبكوا مع عناصر من القيادة العامة وتسبب ذلك بسقوط جرحى، وهو حادث سوف يؤسس لاحقاً، بعد أن تعسكرت الانتفاضة في سوريا، إلى اشتباكات دموية بين المخيم وعناصر القيادة العامة.
في دلالة على تأثر الشباب الفلسطيني بمجموعة تلك التطورات وخصوصاً حادثتي جنوب لبنان والجولان في 2011، تقول سعاد (اسم مستعار بطلب من المتحدثة)، إن تجربتها القصيرة مع النشطاء الشبابيين الفلسطينيين في لبنان وضعتها أمام حقيقة صعوبة العمل من أجل فلسطين عندما يكون الشباب فاقدين للحوافز “فكل واحد ممن التقيتهم يقول: ‘حلمي هو العودة إلى فلسطين’، لكن ما من أحد منهم يؤمن بأنه يمكن له أن يقوم بشيء ملموس لتحقيق هذا الحلم. وهذا يخلق الكثير من الإحباط. لكن كلهم يقولون إن بإمكانهم القيام بشيء ملموس لتحسين ظروف الحياة للاجئين الفلسطينيين في لبنان”.
وتضيف: “في مخيم الرشيدية في منطقة صور، يعمل أعضاء مجموعة ‘أولاد المخيم’ على مشاريع لتحسين أوضاع المخيم وأهله”، وفيما تعدد بعض المبادرات التي تقوم بها المجموعة ومن ضمنها إنشاء مقهى “حنظلة” لجمع الشباب، تشير إلى تنسيق بين هذه المجموعة ومجموعات شبابية في مخيمات في صور وبيروت أيضا، مثل مجموعة “معاً”، وتقول إن مبادرات الشباب تلك تحتاج إلى تمويل، والتمويل إما غير متاح، أو أن بعض الشباب يرفضون التمويل كي يتلافوا الوقوع تحت تأثير البرامج المسقطة من قبل الممولين، أو خوفاً من اتهامهم بالعمالة إذا ما تلقوا تمويلا من USAID مثلاً، أو بالتآمر إذا تلقوا الدعم المالي من القيادي المفصول من حركة “فتح” محمد دحلان.
ويقول أحمد، الناشط في “الشبكة الشبابية”، إن الصعوبات في المخيم وعدم قدرة الفصائل على استيعاب الشباب المستقل وغير المنتمي سياسياً، دفع هؤلاء إلى تشكيل مجموعات شبابية من خارج الفصائل. ويعكس أحمد النظرة السوداوية للشباب في المخيمات ويقول إن الشباب في المخيمات يرون مستقبلاً مظلماً خصوصاً بسبب اقتناعهم باستحالة العودة إلى فلسطين. وفيما يحمل الفصائل مسؤولية تردي الوضع المعيشي للفلسطينيين في لبنان عامة والمخيمات خاصة، بسبب عدم كفاءة مسؤولي وكوادر الفصائل، يرى أن ما يمكن أن تنجزه الحراكات مقتصر على تحسين هذا الواقع.

الشباب الفلسطيني 2
حق الهجرة؟؟
يكتب الصحافي اللبناني وفيق هواري في موقع “جنوبية” الإلكتروني تحت عنوان “الشباب الفلسطيني: من حق العودة إلى حق الهجرة”، فيقول: ” في العام 2003 حضر أحد الطلاب الفرنسيين لإعداد أطروحة حول ما يريده الفلسطينيون. ساعدته في لقاء نحو 30 شخصاً، أجرى مقابلات معهم. وفي نهاية الأسبوع أبدى ملاحظة حول اتفاق الجميع على مطلب واحد هو حق العودة. والإصرار على تنفيذ هذا الحق بالوسائل الممكنة كافة. وفي العام 2014، حصلت اعتصامات وعمّت معظم المخيمات الفلسطينية، وكان هناك اتفاق بين الشباب على تنظيمها صباح يوم الأحد من كل أسبوع. يرفعون مطلباً واحداً هو تسهيل خروجهم من لبنان نحو المجهول، الذي يصفونه أنه مهما بلغ من السوء سيكون أفضل من الوضع في لبنان”.
بدأت الدعوة إلى “حق الهجرة” عبر تعليق (Post) لشاب فلسطيني على “فايسبوك” ليتناقله عدد كبير من الشبان والشابات، وتظهر بعده مجموعة تطلق على نفسها “حملة حق الهجرة” وتنظم تظاهرات واعتصامات داخل المخيمات.
عندما وجهت سؤالاً إلى علي (…) وهو أحد المشاركين في الحملة عمّا إذا كان المشاركون في الحملة مهتمون بعد مطالبتهم بالهجرة بالعودة إلى فلسطين، فبادرني إلى القول إن هذا لا يلغي ذاك، فيمكن له ولزميلاته وزملائه أن يطالبوا بحق العودة، أو أن يعودوا وهم يحملون جنسيات أخرى، فيما في لبنان باتت الحياة مستحيلة مع كل القيود الاقتصادية والاجتماعية والقانونية المفروضة، وبعدما تخلت كل الفصائل عملياً عن حق العودة، وتركت اللاجئين إلى مصيرهم، وفشلت حتى في تأمين الحد الأدنى من الحقوق لهم في لبنان.
أما رد فعل الفصائل، فكانت حتى نشوء “حملة حق الهجرة” تكتفي باتهام الحراكات الشبابية المستقلة بالارتهان للمنظمات غير الحكومية المرتهنة أساساً للممولين الغربيين (المنظمات غير الحكومية ترد الاتهام بأن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير مرتهنات لممولين عرب وأجانب وخصوصاً للتمويل الأميركي، وأن الفصائل ‘الممانعة’ يأتي تمويلها من إيران، فيختلف الممول ويبقى المفوم واحداً، هو وضع الممول شروطه الخاصة السياسية، أما المنظمات غير الحكومية فإن شروط تمويلها متصلة بوفائها بمنظومة حقوق الانسان والجندرة). وبعد “حملة حق الهجرة” أصبح الاتهام هو العمالة، الأمر الذي جعل الشباب المشارك في الحملة يتخذ موقفاً أكثر سلبية من الفصائل. كما أن الفصائل توافقت على إنشاء حركة شبابية مرتبطة بها تحت اسم “شبابنا” لكنها غير فاعلة وجل ما تقوم به هو إصدار بيانات وتوزيعها بالبريد الإكتروني.
ويدافع أحمد، من “الشبكة الشبابية” عن المجموعات الشبابية المطالبة بـ”حق الهجرة”، بقوله إن هؤلاء هم “ضاحيا الفصائل مجتمعه”.

خلاصة
إن ما يمكن استخلاصة من التجربة التي يقوم بها الشباب الفلسطيني في لبنان، أن ضعف الوضع الفلسطيني عامّة، واستثناء اللاجئين عملياً من المشاركة في بحث مصيرهم في المفاوضات بين منظمة التحرير وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد في 1991، وتهميشهم من قبل الفصائل العاملة في لبنان، وعدم الأخذ بعين الاعتبار تطلعاتهم ومطالباتهم بتحسين أوضاعهم، والاستمرار باستخدامهم في المزايدات الفصائلية، والتمييز ضدهم اقتصاديا وقانونيا في لبنان، أوجد حالة من الإحباط لديهم ودفع بعضهم إلى المطالبة بـ”حق الهجرة”، فيما البعض الآخر بات همّه الأساسي تحسين ظروف الحياة في المخيم، وكلهم استحال “حق العودة” لديهم من حلم قد يتحقق، إلى حلم مستحيل لا يمكن تحقيقه.
إن فشل الفصائل في تحقيق حد أدنى من مطالب اللاجئين على المستوى الوطني، وتحسين أوضاعهم الحياتية على المستوى المحلي، دفع الشباب إلى الانفضاض عن الفصائل وتشكيل حراكات شبابية، تحاول ملء الفراغ الناشئ عن ضعف الفصائل، لكن بشكل فوضوي قابل للاستغلال ما لم تتنبه القيادات السياسية الفلسطينية لخطورة الوضع والشروع بوضع برامج عملية تلامس أفكار الشباب ومطالبهم المحقة.
والواقع أن الفصائل شبه مغلقة، كونها لا تقبل افكاراً جديدة ولا مبادرات بمفاهيم عمل حديثة وترتكز أساسا على الولاء للمسؤولين الذين يتنافسون فيما بينهم لكسب القاعدة الحزبية للبقاء في سدة المسؤولية. وبالتالي فإن هؤلاء يتحاشون إدخال عناصر تمتلك مبادرات قد تطيح بمراكزهم التي ورثوها من زمن ماض ولم يعد أمامهم أي شيء آخر يعملونه في هذه الحياة سوى البقاء في مراكزهم.
كما انه لا شك في أن ازدهار ظاهرة المنظمات غير الحكومية NGO’s وتدفق الأموال على لبنان ومن ضمنها المخيمات الفلسطينية في مطلع الألفية الثانية وحتى نهاية العقد الأول منا، قد أغرى كثيراً من الشباب للعمل مع هذه المنظمات والابتعاد عن الفصائل. لكن سوف نكون غير منصفين إذا ما حصرنا الأمر فقط في المسألة المالية. فالمنظات غير الحكومية، على الرغم من كل مساوئها، وسعت أفق الشباب الفلسطيني في لبنان باتجاه فهم ما يتضمنه القانون الدولي وحقوق الانسان والديموقراطية والمشاركة السياسية وحقوق المرأة والمساواة…. الخ، فاجتهد كثير من الشباب الفلسطيني في توسيع أفق معارفه في هذه المسائل أكثر مما تقدمه الدورات التدريبية للمنظمات غير الحومية. ثم أنه في بداية العقد الثاني وخصوصاً بعد اندلاع المواجهات في شوارع العواصم العربية في سياق ما أطلق عليه في حينه “الربيع العربي” والتداعيات اللاحقة، خفضت كثيراً من التدفقات المالية الدولية على لبنان عموما وعلى الفلسطينيين على وجه الخصوص، فأقفلت بعض المنظات أبوابها وضمر البعض الآخر ومن لا زال يعمل مرتبط اساساً في أطر فصائلية ويفيد حصراً أفراد وعناصر الفصيل هذا أو ذاك.
بالخلاصلة فإن من الغبن ربط الحراك الشبابي الذي انطلق عمليا بعد ان جفت منابع التمويل الدولي للمنظمات غير الحكومية في مخيمات لبنان، بالمسألة المالية، بل يمكن ربطه بـ4 عوامل، هي:
1 – التأثر بما يجري عربياً وانطلاق مطالبات بحق الشباب في المشاركة في القرارات السياسية العامة؛
2 – قوقعة الفصائل على نفسها واشتداد أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية والانقسامات التي فاقمت من أزمتها وتركيز الفصائل كلها وبلا استثناء قبلاً ولاحقاً على الداخل الفلسطيني من دون التفات إلى خصوصية الخارج ومصالح الناس ومعيشتهم وكراماتهم …الخ؛
3 – اتساع افق تفكير الشباب الفلسطيني بعد ان تعرف على ثقافة المشاركة والديموقراطية وحقوق الانسان والقانون الدولي وحقوق المرأة والمساواة… الخ، عبر برامج وتدريبات المنظمات غير الحكومية، في وقت بقيت ثقافة الفصائل محدودة جدا وضيقة الافق؛
4 – التضييق الاقتصادي والاجتماعي وحتى التعليمي من قبل السلطات اللبنانية على اللاجئين الفلسطينيين واقفال مسرب المال المتدفق من المنظمات غير الحكومية وعدم قدرة الفصائل على التعويض ماليا وعدم اقدامها اصلاً على إنشاء مشاريع تشغل الشباب، قاد الشباب إلى التمرد وإطلاق مبادرات بعضها سلبي مثل مبادرة حق الهجرة.
لكن من الملاحظ أن الحراكات الشبابية على اختلاف افكارها وأهدافها شاركت بفاعلية في حملات التضامن مع غزة خلال العدوان الاخير، وعملياً هي لا تمتكلك سوى القدرة على التضامن، إذ لا يمكن القيام بفعل في هذا الأمر مع اقفال الحدود في لبنان وأعمال القتال العنيفة في سوريا، وأصلا عدم إرادة أو قدرة الفصائل على القيام بأكثر من عملية تضامن عبر تظاهرات واعتصامات وخطابات وبيانات… الخ. بمعنى أنه في ظل الأزمات الكبرى يمكن للشباب الفلسطيني في لبنان، الذي بات أكثر استقلالية عن الفصائل، أن يضعوا جانباً ومؤقتا همومهم الخاصة وأن يعملوا في اطار عام. لكن نعم شعور الشباب بأنهم منسيون كلاجئين وغير مدرجين، في حقيقة الأمر، ضمن ما طرح ويطرح من حلول للقضية الفلسطينية، يزيد من إحباطهم إحباطاً، علماً أنهم يمكن أن يكونوا مبادرين كونهم يمتلكون قدرات ذاتية، وبالتالي إذا وجدت ظروف موضوعيه تتيح لهم القيام بمبادرات وطنية فإنهم مهيأون للقيام بها، ومبادرون إليها في كثير من الأحيان.

انيس محسن
كاتب وباحث سياسي فلسطيني