معارك بين الحرب والسلام!

عرفان نظام الدين (الحياة)

تشهد المنطقة هذه الأيام إرهاصات ومدّاً وجزراً وغلياناً وهدوءاً وتحركات متسارعة تخفي وراءها بوادر حسم وحلول، إن فشلت تنذر بنشوب نيران وتصعيد معارك متعددة الأخطار والأهداف لا تكسب حرباً ولا تحقق سلاماً، لكنها تدور في فلك التأرجح بين الحرب المرفوضة والسلام المفروض.

واللافت للنظر أن هذه المعارك تمتد وتنتشر عبر الدول العربية، وفي مختلف مواقع التفجيرات وأتون النيران المشتعلة منذ 4 سنوات من دون انقطاع ولا بوادر بزوغ بارقة أمل تدل على قرب الخروج من نهاية النفق المظلم، باستثناء تونس التي تسير في الاتجاه الصحيح على رغم الخوف من تعثر أو انتكاسة أو تنابذ عند حلول ساعة حساب الحفاظ على الوحدة الوطنية وتقاسم الكراسي وحفظ التوازنات.

القطوع القريب الأخطر مرّ بسلام (موقتاً)، وتمثل في معارك الردع المتبادل بين إسرائيل و»حزب الله»، ومن خلفهما إيران وسورية. فقد كان من شبه المؤكد أن الغارة الإسرائيلية على موكب قيادات «حزب الله» وجنرال إيراني مهم في القنيطرة السورية ستشعل حرباً طاحنة تشمل المنطقة وصولاً إلى إيران، إلا أن رد «حزب الله» المدروس في مزارع شبعا وليس عبر الخط الأزرق الذي يخضع لبنود القرار الدولي الرقم 1701، إضافة إلى محدودية الضربة وحصرها بمقتل جنديين وإصابة 7 جنود إسرائيليين وعدم أسر أي جندي حدّت من خطر الانفجار الشامل وكبحت جماح رد الفعل الإسرائيلي.

لكن هذا لا يعني أبداً أن كل شيء عاد إلى طبيعته الأولى، فكل الاحتمالات واردة من الرد والرد المضاد إلى حدوث أمر ما يصعب السيطرة على مفاعيله. فقواعد الاشتباك، أو اللعبة، محافظ عليها في إطار المعارك المحدودة لتبقى مهددة، كما أكد الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله الذي أعلن عدم الالتزام بها بعد اليوم. وهذا مؤكد في حال توافر قرار سياسي دولي وإقليمي لنعود إلى التأرجح بين الحرب والسلام. فالانتخابات الإسرائيلية العامة، التي ربما كانت من أسباب تأجيل الرد الإسرائيلي القوي، قد تسفر عن عودة بنيامين نتانياهو وحكومته العنصرية المتطرفة بقوة طالبة الثأر، إلا إذا جرت رياح صناديق الاقتراع بما لا تشتهي سفنها.

كما أن زيارة التحدي لنتانياهو إلى واشنطن وإصرار الجمهوريين المسيطرين على الكونغرس على دعوته خلافاً للأصول والبروتوكول لا بد من أن يكون لهما مضاعفات بدأت تباشيرها بإعلان البيت الأبيض عدم جواز استقباله قبل الانتخابات.

وفي خط مواز، ما زالت أوزار الحرب الدولية ضد الإرهاب مشتعلة لإنهاء ظاهرة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وتمدده الصادم، إلا أن المعارك تسير في خطين متلازمين كلاهما محفوف بالأخطار ومحكوم بالتوافق والتوازنات الداخلية والطائفية والمذهبية والعرقية، مع الأخذ في الاعتبار التوازنات الإقليمية والدولية. فعلى جبهة عين العرب (كوباني) نجحت الميليشيات الكردية في دحر «داعش» تدريجياً بدعم طائرات التحالف الدولي، لكن أسئلة كثيرة طرحت حول الإنجاز وما بعده في حال تجددت المعارك لأنها حرب عصابات وكرّ وفرّ.

لكن ماذا لو حسمت المعركة لمصلحة الكرد؟ هل سيحصدون الثمن ليباشروا إقامة كيان مجاور لكردستان العراق؟
الأكيد أن العقبات ستكون كثيرة والعراقيل متعددة بوجود أكثر من جهة ستعمل لمنع هذا الأمر. وتركيا أول الممانعين والمستعدين للمواجهة بقوة، وهي أعلنت بصراحة موقفها الرافض أي تغيير في التوازنات القائمة التي ستؤدي إلى حروب لا نهاية لها.

أما سورية، فإن الفصل سيؤدي إلى إحراج طرفي النزاع، فالدولة لن تسمح باقتطاع جزء منها والسير في محرقة التقسيم، وأعطت معارك القامشلي بين الكرد والجيش مؤشراً على هذا الاتجاه، إضافة إلى حقيقة أن المنطقة المستهدفة غنية بالنفط والثروات المعدنية والزراعية والحيوانية. كما أن المعارضة ستصاب بضربة معنوية وسياسية تتحمل تبعاتها وتغرق في غياهب الاتجاهات الانفصالية المدمرة.

أما العراق، فإن أي تغيير في توازن القوى، وخصوصاً في المقلب الكردي، سيؤدي إلى التقسيم الحتمي ويهدد وحدته وأمنه القومي ويفرض حصاراً على المدن والقرى العربية في الموصل وجوارها وتهديد وجود العرب والسريان الذين كانوا يشكلون غالبية سكان الجزيرة السورية وشمال العراق قبل أن تتحول إلى أكثرية كردية.

وعلى صعيد حروب «داعش»، يبدو أن حصرها في أماكن نفوذها في الرقة والموصل سيؤدي حتماً إلى زيادة مكامن خطر توسعها، وربما استمرار وجودها كأمر واقع لسنوات مقبلة، خصوصاً أن إنجازات الجيش العراقي والميليشيات والعشائر قد شُوِّهَت بسبب البطء اللافت لقوات التحالف وغاراتها والممارسات المخزية لبعض الميليشيات الشيعية التي ارتكبت مذابح وعمليات نهب وحرق لمنازل المواطنين السنّة، ما أثار نقمة عارمة لدى العشائر والأهالي الذين ساهموا بقوة في محاربة الإرهاب ودحر «داعش» الذي سيستفيد من الممارسات المذهبية البغيضة، ما جعل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يدعو إلى فتح تحقيق في الأمر.

وبالعودة إلى لبنان وشظايا الحرب على الإرهاب، من غير المستبعد وجود نوايا شريرة لـ «داعش» واستضعاف لبنان لغزو قرى مجاورة للقلمون وإعلان إمارة تابعة للتنظيم. ويمكن اعتبار المعارك التي نشبت بين الجيش اللبناني والمتطرفين في عرسال ورأس بعلبك «بروفة» لمعارك أوسع تتحول إلى حرب طاحنة ومضاعفات خطيرة، إلا إذا نجح اللبنانيون في ترسيخ الوحدة الوطنية وحققوا اختراقاً في الحوارات الجارية لنزع فتيل الفتنة بين السنّة والشيعة وانتخاب رئيس للجمهورية والتفاف الجميع حول الجيش والقوى الأمنية.
أما في مصر، فالمعارك تأخذ منحى آخر بين الجيش والشعب والنظام من جهة، والمتطرفين من جهة ثانية، بعد تجاوزهم كل الحدود الدينية والإنسانية بارتكابهم مذابح رهيبة ضد المدنيين والجنود في سيناء وغيرها. وفي شأن المعارك بين السلطة و»الإخوان المسلمين»، فإنها ما زالت محدودة على رغم آثارها السلبية على مجمل الأوضاع حتى لا تتدهور الأمور وتتحول المعارك الفرعية إلى حروب مدمرة. وينتظر المصريون – بفارغ الصبر – أن تحسم الأمور قريباً لمصلحة الأمن والاستقرار والدولة والمواطن الذي يبحث عن لقمة عيشه بسلام وكرامة، وأن تسفر الانتخابات المقبلة عن تمثيل صحيح ومتوازن يكمل بناء أسس خريطة الطريق التي أعلنها الرئيس عبدالفتاح السيسي.

وهذا ينطبق على ليبيا التي تدور فيها معارك طاحنة بين الجيش والقوى الوطنية من جهة، والميليشيات المتطرفة والمتعددة المشارب من جهة ثانية، والتي يخشى أن تتحول إلى حروب لا تنتهي في حال فشل الحوار القائم برعاية الأمم المتحدة، والتي يمكن أن تمتد نيرانها إلى دول الجوار.

ويبقى اليمن، غير السعيد، ليمثل السكين المغروس في قلب الشعب ويهدد بذبح الوحدة الوطنية، كما يهدد المملكة العربية السعودية ودول الخليج والمنطقة بأسرها. فالتمرد الحوثي وفرض الهيمنة على العاصمة والسلطة والدولة لا يمكن أن يحسما المعارك الحالية. والأكيد أن الحوثيين أخطأوا في حساباتهم وتورطوا على رغم معرفتهم الأكيدة بالأوضاع وخصوصية اليمن وتعقيداته وعدم قدرة فريق واحد أن يسيطر عليه مهما بلغت قوته، في ظل اتجاهات انفصالية وأوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة وانهيار شبه تام للمؤسسات، وأولها الجيش، إضافة إلى البعد المذهبي بين السنّة والشيعة، والإقليمي والعربي والدولي المتمثل في دور إيران وطموحاتها للوصول إلى البحار من الخليج إلى البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، والسيطرة على طرق النفط والقرار.

وتشكل معارك أو جولات الحوار في مفاوضات الملف النووي الإيراني، أبرز معالم الطريق لحل الملفات الأخرى أو تعقيدها. فالحل معقود على الوصول إلى اتفاق قريب بين إيران و»مجموعة 5 + 1» لإنهاء التأزم لمصلحة المنطقة واستقرارها، وإلا فإن الفشل سيحول المعارك المتفرقة الحالية إلى حروب طاحنة تشمل الجميع وتهزمهم، لأن المنتصر – مهما حقق – سيتحول إلى مهزوم. وهناك مؤشرات إلى احتمال الوصول قريباً إلى أعماق القضايا المطروحة، خصوصاً أن الأزمات الاقتصادية والمالية الناجمة عن تدهور أسعار النفط أرخت بظلالها على إيران وروسيا ودفعتهما إلى كبح جماح سياساتهما الهجومية.

في ضوء هذه المعطيات، برزت إلى الواجهة حوادث مهمة قد تؤدي إلى حسم الكثير من المواقف والقرارات والبدء بخطوات للانتقال من معضلة المعارك وأخطار الحروب في المنطقة. فقد صدم العرب والمسلمون والعالم كله – الذي زحفت قياداته إلى الرياض – بغياب قائد الحكمة والأصالة والإصلاح الملك الصالح عبدالله بن عبد العزيز، وعمّ الحزن لفقدانه نظراً إلى دوره الإنساني وشخصيته الفذة وخدماته للحرمين الشريفين وللشعب السعودي والعرب والمسلمين وقضية فلسطين والقدس، فضلاً عن تصديه للإرهاب ودعوته إلى الحوار بين الأديان والمذاهب. وما خفف من هول الحدث المفجع الجلل البيعة الكبرى التي تلقاها الملك سلمان بن عبدالعزيز من شعبه وأمته، وهو رجل دولة وإدارة وحسم، وله خبرة واسعة في مختلف المجالات خدم فيها وطنه لأكثر من ستين سنة وشكل رافعة للدولة في الداخل والخارج عبر علاقاته الواسعة.

وستبقى الأنظار مشدودة لاستقراء نتائج الزيارة الاستثنائية للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الرياض على رأس وفد ضخم ضمّ كل أطياف الولايات المتحدة وقادتها، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. ولا بد من أن تنعكس نتائج هذه الزيارة على كل القضايا والأزمات الراهنة، من العلاقات الثنائية ووسائل تدعيمها إلى موضوع السلام الملحّ في الشرق الأوسط والمضي في محاربة الإرهاب مع تفعيل الأداء في أسعار النفط وتفاعلاته. وعندما تتضح الصورة، يمكن قراءة خطوط المستقبل وحصر المعارك وإخماد نيرانها حتى لا تتحول إلى حروب لا نهاية لها… فكل واحد منا يتعطش إلى السلام والأمن أو على الأقل إلى بداية مطمئنة تحمل بارقة نور للأمل المرتجى.