مجتمعات الأمازون

بقلم د. قصي الحسين

تبدو مجتمعات الأمازون في دراسات الباحثين الأنتروبولوجيين لغزاً مغلقاً. فالرحالة الأوائل الذين رست بهم مراكبهم على سواحل البرازيل في القرن السادس عشر، تحدثوا لنا عن أن هذه المجتمعات التي وقفوا عليها هناك، وعاينوها عن كثب، كانت تفتقر إلى الإيمان والشريعة والملك. ذلك أنه لم يكن في تلك المجتمعات البشرية القديمة التي انتشرت حول ضفاف نهر الأمازون، شيخ أو رئيس، ولا جماعة ثابتة ومتماسكة، تستطيع أن تنسب نفسها إلى آباء وأجداد أو أصلاب، يمكن أن تؤسس للعشيرة بالمفهوم الإنساني المتقدم لها، ولم يكن لتنتظم في سكن أو في اجتماع أو في مجتمع أو قرى بعينها. إذ كانت منازلها مبعثرة والحروب بينها قديمة، ومتجدّدة. وهي تشتعل بين جماعات الأمازون بلا أسباب يمكن التكهن بها، إلاّ طلب الطرائد والقنص.

وقد درس الباحثون الانتروبولوجيون تاريخ العلاقات بين الهنود في مجتمعات الأمازون ولاحظوا في وقت مبكر خصوصية أو فرادة علاقة هذه المجتمعات بالطبيعة. وبعض الباحثين وصفوا هذه العلاقة ومدحوها، فقالوا إن الهنود “فلاسفة عراة” فهم يعتاشون من الطبيعة المعطاء التي تدر عليهم خيراتها بلا حساب. أما الفريق الآخر من الباحثين، فذموا علاقات الهنود في مجتمعات الأمازون بعضهم ببعض. وقد وجدوا كما وصفوهم لنا: أن الهنود متوحشون عتاة. وهم من أكلة لحوم البشر. لا يكفون عن الاقتتال والنهب، وذلك بسبب غرائزهم الشنيعة وطبائعهم الوحشية، ونفوسهم البغيضة والشريرة والقاتلة.

أيقظتني مجتمعات الأمازون على المجتمعات اللبنانية. ذلك أن الدراسة المقارنة يمكن أن تنظر حقلياً بين التكوينات المجتمعية اللبنانية والتكوينات المجتمعية الأمازونية. ودراسة روابط اللبنانيين النازلين حول الغابة السياسية وعلاقاتها بالطبيعة اللبنانية: شمالاً وجنوباً، ساحلاً وداخلاً، وسهلاً وجبلاً، تحمل الدارس على الشك في حمل هؤلاء القوم على مجتمع يتكيف مع بيئة مخصوصة بعينها.

فروابط السياسيين اللبنانيين اليومية، ينظر إليها على نحو واحد: فهي علاقات سياسي بآخر، من غير تمييز. والأقاليم التي ينتمون اليها ونسميها نحن أقاليم “طبيعية”،وتميزها جغرافياً، يرون فيها كهف الروح، وكهف السياسة بلا سقف. ذلك أن السياسيين اللبنانيين وهم يصدرون عن أقاليمهم، إنما يجسدون العلاقات الطبيعية الأمازونية، التي تصطلح بالشراكة أو الندية في إطار الروابط والعلاقات اليومية المتحركة باستمرار والتي لا تعرف الاستقرار.

وعلى الباحث الأكاديمي في الشؤون اللبنانية، أن يعيد النظر في الفصل بين الأقاليم والمجتمعات الأمازونية في لبنان، وأن يعمد بالتالي لصوغ مفاهيم جديدة، لا تقتصر على القياس أو التصنيف الذي ابتكرته الأكاديميات، وتوسلت به إلى تأويل أقدار هذه المجتمعات اللبنانية، بكل مصائرها التاريخية التي آلت إليها في الفصول الأخيرة من الحياة في الغابة السياسية التي كشفت عن ساقها المعروقة الشنيعة، بكل عري وبكل فظاظة وبشاعة.

إن النظر في عالم الغاب الأمازوني في لبنان، لا يعني تمثل عالم كان قائماً من قبل. فليس على الرؤى الأكاديمية المتفرقة أو الثقافات التي تشف عنها إلاّ التعرف على صور قاتمة عنه. ونظم عالم الغاب اللبناني، يفترض طريقة في الإدراك والإحضار أقله في الأعوام الأربعين الأخيرة. واستطلاع خصائص البيئة السياسية الوحشية والعلاقات التي تنعقد فيها، معطوفة على سيرورات السياسيين ومواقفهم الأيقونية، إنما تبلور أحوالاً جديدة من الإدراك في الأفق السياسي المحلي اليوم، والآفاق التي يمكن أن تؤول إليها في المستقبل. فهل بمقدور العلم أن يجلو لنا الطوية الذاتية والسمات السياسية المادية والرمزية، لمجتمعات الأمازون اليوم في لبنان.

فالشعب اللبناني، هو مثل سياسييه الذين يخضع لهم، ومثل أفراده الذين يتألف منهم. وهو لذلك، يعمل بتأثير دعابات وقتية، وآمال متفائلة أو عداوات عنفية. وهو معرض للدخول في صراعات مذهبية وطائفية وقومية بعنف مرة، وللتخلي عنها والاستراحة منها، لتعبٍ أو قرف، مرة أخرى. وإذا أردنا أن نقف على أسباب الفساد النهائي، علينا أن ندرس تلك الثورات والانتفاضات التي ساهمت أو ساومت، على إزاحة أو منع أهداف أو مسعى كل بحث ناجح، والتي حرمت المواطن اللبناني من فرص التصرف كعضو في المجتمع فسحقت روحه وحقرت مشاعره وحرمت عقله من النظر في الأمور.


(*)  أستاذ في الجامعة اللبنانية