أبو وسيم والزمن اللامعدود

د. شوقي أبو لطيف (الأنباء)

بين أسارير الهدي ألمحك، وقد تصدّع بعض كثيف حين تركت، لكأنّك تشرّع منافذ الروح الى البهاء، فأنت مَن صَخُبَتْ أمداؤه بمداد لطيف، ينكّه السكوب العلوي، بطيِّب من ثرى، وينثر على الأفئدة حُبّاً من ذاك المُؤرّج بشذى.. ويجلو على المطارح أنساً من ذاك المعتّق بذكرى…

بين الملامح والملاحم أسمعك، وقد تحوّل الكلم الى سكوت، حين سكت فيك الحبور، فأصغت إليك الجوارح وجعاً، وانثنت عن أعراسها الزهور، لارتياد الحزن في مداك. وحيث وسعك رحب الأماكن فالمنى لديك ان تصحو المتون وان ينجلي الضمير في حلكة الزمان فتقرأ الأسفار على نور ونور.

أبا وسيم محمود حسن الأحمدية، أيها الفقيد العزيز.

تُركت صغيرا طري العود، حين خطف الموت منك أبا في مقتبل العمر وفي أوج العطاء، لكنك ما لبثت أن تجاوزت الشدائد، تُيَمِّم شطر المعارف طفلاً، تبحث عن مسارب الخلاص من ظلمة جاثمة. كانت المدرسة بعيدة، حتى في الحلم والمخيّلة، لولا أن يداً امتدّت لتأخذ بيدك الى “داخلية”، من مدارس تلك الحقبة المتسّمة بالقسوة، وإن اكتنزت بعض التنوّر، الذي أضاء بعض تاريخ لبنان، بيد أن الزمن المدرسي المألوف لم يكن ليمهلك، فالواقع يزخر بمدارس اخرى تفرضها الظروف، ليس أقلّها الإنهمام بشجون العائلة، والوقوف الى جانب والدة تنوء بأعباء أسرة كبيرة.

كان المنزل الأبوي القروي، يتظلّل بشير صخري، يهال بشهوقه عَيْنَيْ صبي صغير، فترتسم في وجدانه الغضّ صورة الرحلة الصعبة، الى مجاهل غدٍ بعيد… لولا مؤانسة التقوى، تنير المجلس البيتي الرواقي بحرارة الإيمان، وبريق الأمل وبركة الروح الزراعيّة، التي لطالما خيّمت على تلك الضياع الوادعة بين جبال الأرز والأودية.
وإذ بك تكبر على هتاف القلوب التائقة الى العدل والحريّة، فتصطدم بعقبات كأداء في الدرب، تحاول أن تزيلها، ويحول دونك قسر جمعي تخلّفه القرون المنصرمة، لتغدو المكابدة أكثر قسوة، وليغدو جهدك أكثر قوّة، ولتصلب فيك إرادة لا تعرف اليأس والكلل.

وإذ تخوض نضالاً الى جانب معلّم كبير هو كمال جنبلاط، فإنك تسطّر ومن رافقك من أقرباء امثولة في التفاني والإلتزام والإقدام، لطالما ردّدها القائد الفذ على مسامع من خذلوه في إحدى محطات العام 1958، وكنت آنذاك تتطلّع الى الى ثورة حقيقيّة، تؤدّي الى تحوّل في المسار السياسي اللبناني، وفي الحراك المجتمعي، نحو آفاق مضيئة، حيث تنفرج الوعود عن تحقيق الآمال الكبيرة، لكنك ما لبثت أن أدركت أن ما يواجه الثورة في هذه البلاد من معوّقات التقليد والتقاليد، ومن دواهم الإنتماءات بأشكالها القبليّة والمذهبيّة والطائفيّة، فعقدت العزم على العبور الى وجهة اخرى، تستلهم الماركسيّة درباً يلامس ميولك الجوّانيّة الى الإنعتاق، لتفلح في استجماع روح جديدة، قوامها الإشتراكيّة العلميّة، ممزوجة بأخلاق مجتمعيّة عريقة، تعود الى مآثر الإمارة التنوخيّة، التي ألقت بهالة قدسيّة على المكامن الشعوريّة للإيمان، عند الموحّدين من أبناء الجبل، ولقد تبيّن ذلك في ما أرسيته من سلوك ثقافي بين أصدقائك ورفاقك، وما جسّدته من ثقافة سلوك بين أفراد أسرتك وأقربائك، ثقافة تكتنز الإنسان دليلاً وغاية، لا يحول دونها خوف، ولا ينال منها طغيان. لذا لم تفارق محيّاك ابتسامة نديّة، كلّما آلت الأمور الى الرضى، لتغدو مزدانة بالغبطة، مفعمة بالحب والود، لشمل يجتمع، وكم لمعت في عينيك النسريتين دموع الفرح عند ذكر المناقب والمواقف المشهودة…

أبا وسيم، تفتقدك الساح مجاهداً عندما يدقّ النفير، فتفتدي الوطن بغير حساب، تمتشق بِيَدٍ سيف المقاومة والكفاح، وبيدٍ اخرى تحمل معول الحرث والزرع، فتنمو فيك المواطنة، كنموذج متقدّم للحريّة والوعي، على هذه المشارف الكئيبة من شرق يترنّح، لكنّك لم تفقد الأمل يوماً، ولم تهن لك عزيمة، بل ظللت بيرقاً يرفرف والنسائم الجذلى على القمم العليّة.

أما وقد جلّل كيانك الترابي وقار أثيري من جلال السنديان، الذي يسم تلال الجرد من صوفر الى شارون، قبالة الباروك والربى المزدانة بالشموخ؛ وقارٌ مجلوٌّ بخلود الذكر، وصريح الكلم، وصفاء العقل، فإنّك لتفخر بقميص مرصّع بغبار الحقول، وصدر مندّى بعرق الجبين، يعرّفان عنك، عن سريٍّ خبزه مشبع بالضياء، وسيرته نبض في صحائف الشعر، تُوَجْدِنُ عزم شعب عنيد، ببهي الكلمة، عندما تستحضر التاريخ على “عين الضيعة”، التي شهدت بطولات الجدود كما كنت تروي، وبترنيم الصوت الجبلي، الذي لطالما نشد العنفوان في مشاهق البنيان، كلّما تطرّق طارق الى كيان لبنان، ورجالاته الكبار.

فلتكلّل الأرض جبينك أيّها الحبيب ببواسق الغصون الطريّة، ولتشدو لك الطيور خليليّة النجوى، في أيلول، تحيّة تلو التحيّة، ولتعطّر الأنداء أثوابك بفوحٍ وردي من نسيج قلبك الطاهر، الذي أعطى فأوفى حتى الرمق الأخير…

وبعد، فإن لنا منك ذكرى سوف تظلُّ محفورة في حنايا الوجدان الى الما بعد، عسى أن يفيك الرحمن عنّا في متّسع جنانه، وجوار عزّته، وأن يجزي روحك بما تستحق من إكرام وسكنى، فليس الموت سوى طفرة للروح من زمن معدود الى الزمن اللامعدود. وما أنت في الموت إلا شهقة وَجْدِيّة، ندهة بوح من ملمح الرؤية الى الحق، ومن جلال المكاشفة، فإليك حيث أنت سلام من عرفوك فأحبّوك، سلام الذين تتلمذوا على يديك فأدركوا بعض خصالك، بينما أدركت الحياة بحقيقتها، لنيّف وثمانية عقود، كنت فيها المثل الأفضل والقدوة الأمثل والأبهى، شريفاً وشجاعاً، أصيلاً ونبيلاً، كريماً ووفيّاً.