وفاة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم بعد صراع مع المرض

 توفي الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، بعد صراع مع المرض، وكان ابنه تحدث قبل فترة عن وضع والده الصحي، وأكد حينها أن والده نزيل في مستشفى بمدينة صفد في منطقة الجليل بالشمال الإسرائيلي، خضع في معظمها للعلاج من احتدام سرطان الكبد عليه، وهو المرض الذي أصابه قبل 3 سنوات.

وكانت صحة القاسم تدهورت في نهاية الشهر الماضي جراء معاناته من المرض الذي كان يعالجه بالكيمياوي، فنقلته عائلته إلى “مستشفى صفد”، حيث أشرف عليه صديقه الذي رافق وضعه الصحي طوال الأعوام الثلاثة الماضية، وهو البروفيسور الفلسطيني جمال زيدان، رئيس قسم السرطان بالمستشفى.

والقاسم أحد أهم الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين وهو من شعراء المقاومة الفلسطينية من داخل إسرائيل. وهو مؤسس صحيفة (كل العرب) ورئيس تحريرها الفخري.

ولد القاسم في مدينة الزرقاء الأردنية في 11 مايو أيار 1939 قبل تسع سنوات من إعلان دولة إسرائيل لعائلة فلسطينية من قرية الرامة القريبة من مدينة عكا في شمال فلسطين التاريخية تحت الانتداب البريطاني.

وأصدر القاسم في مدينة الناصرة عام 1958 ديوانه الأول (مواكب الشمس) ويضم قصائده الأولى ومعظمها موزون ومقفى ويغلب عليها الطابع الحماسي. ويبدأ الديوان بالقصيدة التي جعلها القاسم عنوانا للديوان وتقول أبياتها الثلاثة..

“فجر الشعوب أطل اليوم مبتسما-فسوف نغسل عن آفاقنا الظلما. مواكب الشمس قد مارت محطمة-ظلام ليل على أيامنا جثما. ونحن سرنا بها والحق رائدنا-والشمس أضحت لنا في زحفنا علما”.

ودرس القاسم في الرامة والناصرة، واعتقل مرات عدة في حياته، وفرضت عليه قوات الاحتلال الإسرائيلية الإقامة الجبرية لمواقفه الوطنية والقومية، وهو شهير بمقاومته للتجنيد الذي فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها، وهو شهير أيضا بنثرية شعرية ترددها بصوته قنوات عربية وفلسطينية، خصوصا وسط الهجوم على غزة هذه الأيام، وفيها يقول: “تقدموا.. تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم، فكل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم”.

وللقاسم قصائد حظيت بشهرة في عموم العالم العربي ومنها (منتصب القامة أمشي) التي غناها الفنان اللبناني مرسيل خليفة وتحولت إلى ما يشبه النشيد الشعبي الفلسطيني حيث يقول فيها.. “منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون.. وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي”.

وزاوج القاسم في كثير من قصائده بين جماليات الشعر ودور الشاعر المحرض ومنها قصيدة (بيان عن واقع الحال مع الغزاة الذين لا يقرأون) ويقول في بعض سطورها..

“يا أيها الآتون من عذابكم- لا. لا تعدو العشرة-وغازلوا قاذفة-وعاشروا مدمرة… خذوا دمي حبرا لكم-ودبجوا قصائد المديح في المذابح المظفرة-وسمموا السنابل-وهدموا المنازل-وأطبقوا النار على فراشة السلام-وكسروا العظام-وكسروا العظام-لا بأس أن تصير مزهرية عظامنا المكسرة… من أوصد السحر على قلوبكم؟ من كدس الألغاز في دروبكم؟ من أرشد النصل إلى دمائنا؟ من دل أشباح الأساطير على أسمائنا؟.

وحظي القاسم بتقدير المثقفين في العالم العربي وخارجه ونال كثيرا من الجوائز من إسبانيا وفرنسا وفلسطين وآخر تكريماته حصوله عام 2006 من القاهرة على جائزة نجيب محفوظ التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.

ونعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشاعر الراحل. ونقلت عنه الوكالة الفلسطينية قوله “الشاعر القاسم صاحب الصوت الوطني الشامخ رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء والذي كرس جل حياته مدافعا عن الحق والعدل والأرض.”

وكان القاسم يشكل مع مواطنه محمود درويش جناحي طائر ووصفا بأنهما شطرا البرتقالة. وفي منتصف الثمانينيات تبودلت بينهما رسائل نشرت أسبوعيا ثم جمعت في كتاب (الرسائل) الذي يعد من عيون النثر العربي. كان القاسم في فلسطين ودرويش في باريس وكتب له في في ختام إحدى الرسائل “أرى وجها للحرية محاطا بغصني زيتون… أراه طالعا من حجر. أخوك محمود درويش – باريس 5 أغسطس 1986”.

وخاطبه درويش في قصيدة يقول في بعض سطورها “أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات؟ إذن كيف لم يستطع إمرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟ سؤالي غلط-لأن جروحي صحيحة-ونطقي صحيح-وحبري صحيح-وروحي فضيحة. أما كان من حقنا أن نكرس للخيل بعض القصائد قبل انتحار القريحة؟ سؤالي غلط-لأني نمط-وبعد دقائق أشرب نخبي ونخبك من أجل عام سعيد جديد جديد.

كتبوا في سميح القاسم (نقلاً عن السفير)

* النموذج والأمثولة / بقلم يحيى يخلف

رحل سميح القاسم بعد حياة حافلة بالشعر والكفاح وحب الوطن وحب الحياة، وعلى خطى نبضات ودقات قلب الأرض مشى في دروب الحرية، ونثر على الطريق صرخته وناره ورسائل عشقه وصدى غضبه واشتباكه مع المحتل مقرنا الكلمة بالممارسة، رابطا القول بالعمل، والإبداع بالفعل، محملا الكلمة أكثر مما تحتمل الحروف، وكعبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وغسان كنفاني ومحمود درويش ومعين بسيسو وعشرات غيرهم ضبط خطواته على خطى الفدائيين والمقاومين ولهب الكفاح المسلح والشعبي، فكان الشعر الفلسطيني جزءا من أدبيات الثورات الفلسطينية المتعاقبة، من ثورة 1936 حتى المقاومة الباسلة في غزة، وخلق مع رفاقه المبدعين في مطلع الستينيات من القرن الماضي ظاهرة فريدة في الأدب العربي هي ظاهرة أدب المقاومة، ظاهرة لم تكن موجودة بشكلها ومضمونها اللذين وصلا إلينا، فمثَل ذلك إضافة نوعية أغنت المحتوى الكفاحي والتحرري في الفكر والثقافة العربيين. تحلى سميح بسلوك اتسم بالبساطة، والخلق الكريم عبر فيه عن ثراء ثقافته، وعمق انتمائه، وصدق مشاعره، وحميمية آسرة حببت إليه قراءه وأبناء شعبه الفلسطيني والعربي، وأكد بسلوكه كمثقف أن السلوك في ذروة تجلياته هو التعريف الحقيقي للمثقف، كان سميح هو النموذج والأمثولة، توفرت في شعره كل العناصر الفنية التي حولت معظم قصائده إلى أغاني وأناشيد، وأيقونات، وصارت مسيرته الشعرية على مدى أكثر من خمسة عقود سجلا لمسيرة كفاح شعبه، ووثيقة سياسية واجتماعية ونضالية لكل المحطات التاريخية التي مر بها الشعب الفلسطيني. من الصعب الإحاطة بسيرة ومسيرة سميح في هذه العجالة، فإبداع سميح الشعري يحتاج إلى دراسات وكتب وليس مقالة مقتضبة، ولعلي اختم كلامي بما هو شخصي، فقد رافقت فترة مرضه التي امتدت ثلاث سنوات ونصف، وكنت شاهدا على صراعه الشجاع مع المرض، وقدرته على الصمود، وقوة الحياة في روحه، فقد ظل يتحلى بمعنويات عالية، وكان لديه تصميم على الانتصار في هذا الصراع، فمنذ أن اخبرنا البروفسور جمال زيدان الذي اشرف على علاجه قبل ما يزيد على ثلاث سنوات أن حالته خطيرة، وان أمامه ثلاثة شهور فقط قبل أن يودع الحياة، حاولت أيامها مع عدد من الأصدقاء إقناعه بسرعة إقامة حفل زفاف ابنه عمر التي تم تأخيرها بسبب مرضه، إلا انه رفض وأصر على أن يكون الحفل في نهاية الصيف القادم، أي بعد تسعة شهور، كنا نود إدخال الفرح إلى قلبه، لكنه أراد أن يوحي لنا انه سيعيش وينتصر على المرض، وبالفعل جاء الصيف، وأقيم حفل الزفاف، وتزوج ابنه عمر، وأنجب له بعد عام حفيدا وهو ينحاز إلى الحياة في مواجهة الموت، وخلال تدهور حالته في الآونة الأخيرة كنت أزوره، وكانت آخر زيارة في مستشفى صفد قبل ثلاثة أيام، وكان يومها في وضع مقبول، وعندما دخلت المستشفى وضعت على أنفي الكمامة التي يتعين وضعها لدى زيارة مريض يفتقر إلى المناعة، دخلت عليه وانحنيت لكي اقبل جبينه، فمد يده وانزل الكمامة عن وجهي، وأصر على أن يقبلني. كنت اشعر في داخلي بأن هذا اللقاء ربما يكون الأخير، وان حلاوة روحه هذه ناجمة عن مقاومته للموت، وفي جو مفعم بالحميمية سألني عن عائلتي وعن روايتي الجديدة التي سبق أن أخبرته إنها قيد الإعداد، وعن العدوان في غزة، وتحدثنا عن أولادنا وأحفادنا، وفوجئت به يطلب من ابنه وطن الذي كان موجودا، فوجئت بأنه يطلب من وطن أن يريني على هاتفه الذكي مقطع فيديو يظهر فيه وهو يداعب حفيده. (سميح الصغير) ابن ولده عمر، في مشهد رائع يعيد سميح الجد إلى فرح طفولي ما مر بذاكرة شاعر. رحل سميح ولكنه ظل (باق في الرامة) كما ظل أميل حبيبي، الذي أوصى أن يكتب على شاهد قبره (باق في حيفا)، الرامة التي عاش بها مع عائلته، كما عاش بها آباؤه وأجداده، سميح اختار منذ أكثر من عشرة أعوام مكان دفنه وضريحه. اختار أرضا على تلة قريبة من بيته، وأعدها لتكون قبره وحديقته، يطل منها على سهول وتلال فلسطين وطبيعتها الساحرة التي خلقها الله منذ الأزل، سميح يذهب هناك ليموت كما تموت الغزلان، لينام هناك مثل حبة قمح تغفو في باطن الأرض الطيبة والحنونة المجبولة بمسك الشهداء. (كاتب وروائي من فلسطين)

*رحل أنيقاً / بقلم عبد الوهاب الملوح 

آب شهر رحيل الشعراء، آخر الصيف وطلائع الخـريف يذهـب الشـعراء إلى حيث يكتبون قصائد للرياح الآتية من جهة النسيان، وهكذا رحل سميح القاسم شاعر المقاومة الذي وظََّف كل شـعره من أجل القضية الفلسطينية وكتب من أجلها أقوى البيانات والمقالات والتصريحات.
أيضا كان سميح القاسم مناضلا حقيقيا مؤمنا بالقضية الفلسطينية إيمانه بحقيقة وجوده كائنا يستحق الحياة، لذلك لم يترك أرض فلسطين، وظل يناضل في صلب الحزب الشيوعي، وقد كانت له نقاشات مطولة في هذا الصدد مع الراحل الكبير محمود درويش، الأخ الذي لم تلده أمي كما يحلو لسميح أن يناديه.
كانت هذه النقاشات حول النضـال من الداخـل أو الخـارج، وكـانت هذه الرسائل عبارة عن نصـوص أدبية بين الشاعـرين، بل أكاد أجزم أنها كانت أشعر وأبلغ من الكثـير من شعر سمـيح القـاسم الـذي لم تكن علاقته بالشعر جـمالية مهمـومة بالبحـث في تطـوير تقنيات الكتابة، بقدر ما كان الشعر وسيلة تعبيرية بالنسبة له وخادم قضية فقط.
لقد كانت هناك محاولات للراحل بحثا في ماهية الشعر وفي جماليته من مثل مجموعتيه ’’PERSONNA NONA GRATA’’ ومجموعة ’’كولاج’’ غير أنها تبقـى ضمـن مدونتـه التي بلغـت أكـثر مـن سبـعين مجمـوعة شـعرية مـحاولات لا ترقى إلى مستوى البحث الحقيقي في الشعرية وتقنياتها، فهـو عـكس فـدوى طـوقان وتوفـيق زيـاد ومحمـود درويـش وعـكس مريد البرغوثي الذين بقدر ما كان همهم القضية الفلسطينية بقدر ما حاولوا النظأي بالشظعر عن التوظيف الإيديولوجي الآني، وكانت علاقتهم بالشعر علاقة جمالية إبداعية.
جاءت مقارباتهم ذات بعد كوني مركزه الإنسـان الفلسـطيني والإنسـان عموما، بينما جاء شعر سميح القاسـم الذي خـلا من التجـريب ومن البحث اللغوي صدى لهمّ المناضل السياسي داخله، مناضل ملتزم حد العظم بقضية شعبه، وما الشعر بالنسبة له إلا وسيلة للتعبئة والتجييش وفضح أساليب المستعمر وكشف معاناة الشعب الفلسطيني.
لقد رحل الآن سميح القاسم في نفس الشهر الذي رحل فيه محمود درويش، في نفس الوقت الذي تعودت فيه إسرائيل صبّ قنابلها على الشعب الأعزل، في نفس الوقت الذي يتراجع فيه دور المثقفين العرب على حساب الانتهازيين السياسيين.
كان سميح فلسطينيا حقيقيا، قال حين رحل درويش ’’تخـليت عـن وزر حزني ووزر حياتي وحملتني وزر موتـك أنـت تركـت الحـصان وحيدا لماذا؟’’. رحلوا كلهـم الآن، رحلوا إلى حـيث لـن يكـتبوا ولن يغنوا ولن يرفعوا معنويات الحجر والشجر ولن يزرعوا الأمل في الطريق المعتمة. رحل سميح القاسم بعد كل هذا التعب غير أنه لم يسلم سلاحه ولم ينحن لأحد غير شعبه.
هكذا رحل أنيقا كما سبق وعبر عن ذلك قائلا: ’’وليأت الموت وأنا مستح مرتد ملابسَ جميلة ومرتبة، أنا أحب الأناقة حتى في الموت، أحبه أن يكون أنيقا ومرتبا وجميلا ونظيفا’’. رحل أنيقا من دون أن يتلوث بأي شيء ورحل كبيرا وهو يدافع عن شعبه. (شاعر من تونس)

* القصيدة كسلاح / بقلم أمير تاج السر

أول مرة سمعت باسم سميح القاسم، كان ذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حين بدأت أتلمس طريقي في سكة القراءة الحقيقية، معتمدا على نفسي في ذلك بعيدا عن تلك الكتب التي كانت تنتقيها الأسرة وتوفرها لنا. كنت طالبا صغيرا، لكن يتملكني شغف القراءة بشدة. وكانت ثمة أسماء براقة مكتوبة على كل أغلفة الكتب التي كانت تنشرها دار العودة بيروت، تحت عنوان: هؤلاء تفخر الدار بوقوفهم على عتبتها الصغيرة الخضراء.
كان من أولئك: الطيب صالح ومحمود درويش، وعز الدين المناصرة، وأمل جراح، وسميـح القاسـم، كما أذكر، وهكذا قرأت ما تيسر من نتاج أولئك الواقفين على العتبة الصغيرة الخضراء. منذ أول كتاب قرأته للراحل الكبير سميح القاسم وهو ديوان قصائد سميح القاسم، كما أذكر، التمست حماسة تفتقد في أشعار كثيرين من شعراء تلك الفترة. كان سميح يكتب المقاومة شعرا، يتحدى شعرا، وينزف في ساحة النضال شعرا، وأي قصيدة من قصائده تعادل طلقة يطلقها جندي، وشخصيا كنت أتخيله في كثير من الأحيان جنديا يخوض الحرب وقد كان بالفعل مخلصا لقضيته ووطنه الجريح ومن الذين علموا الأجيال معنى أن تحب الوطن بصدق، ولذلك جاء بقاؤه في وطنه برغم كل الصعوبات، برهانا حقيقيا على ذلك الحب.
حقيقة تابعـت ما كتبـه سميـح فترة، وتابعـت ما كتبه العـظيم مـحمود درويش أيضا، وأرى أنهما كانا شاعرين حقيقـيين، كل يحـمل سلاحه الشعري، فقط يكمن الفارق في أي نوع من السلاح يحمله كل واحد منهما، وفي الوقت الذي اتسمت فيه قصيدة درويش بالزخرفة وكثرة الصور، والخيال المكثف، اتسمت قصيدة سميح بوضوحها، وانسيابيتها الخاصة، وتغلغلها في آفاق كل الفئات التي تقرأها أو تستمع إليها.
لقد كانت وفاة درويش من قبل صدمة كبيرة، واليوم أحس أن وفاة سميح القاسم صدمة أيضا، وخسارة كبيرة للشعر الفلسطيني والعربي، كلاهما كان ضلعا من ضلوع المقاومة الفلسطينية الهامة، بل كلاهما كان رئة تتنفس عبرها المقاومة، وطبعا نردد ما نعتقده صدقا، وهو أن الإبداع الجاد والراقي، يظل هكذا موجودا دائما، والمبدع الحقيقي لا يموت بل يظل حيا ما دامت الحياة لا تزال.  (كاتب من السودان)

* شاعر الأرض وأثيرُها / بقلم أنطوان أبو زيد 

يوم كنّا نقرأ للشعراء الفلسطينيين، وعلى رأسهم محمود درويش، كنّا نحسب أنّ سميح القاسم كان أصغر عمرا من محمود. وأنّ الثاني كان يتلمّس طريقه الى النجومية بنشر مجموعاته الشعرية في بيروت، وكان لا يزال معتصما بأرضه فلسطين. ويوم شرعنا في التمييز الدقيق بين الشعراء هؤلاء، ونمضي في إثر نتاجهم الشعري، بعد استشهادهم (كمال عدوان، على سبيل المثال)، صرنا قادرين على التمييز بين كتابة محمود درويش الشعرية، التي تسعى إلى بناء نماذج ومثالات خارج ما درج عليه الأدب الملتزم والمنتمي الى اليسار من إرث بشري وعالمي، متوكّئا على ذاتّية تستوعب الثراء القادم اليها، وبين كتابة سميح القاسم التي حسبنا، ذات يوم ـ من أيام ضيقنا بالإرث الأدبي الملتزم ـ أنها صنو البيان السياسي الشيوعي، لفرط تطابق المثالات والنماذج التي أخرجها الشاعر، ولا سيما في بداياته (مواكب الشمس، أغاني الدروب، دمي على كفّي..) مع المضامين السياسية والإيديولوجية التي يحملها انتماؤه، هو الشاعر المناضل في سبيل تحرير شعب فلسطين من المحتل، ومن مستغلّيه الطبقيين بلغة اليسار الملتزم. ولكن هذا التصوّر الخاطئ والمبتسر عن الشاعر سميح القاسم وكتابته الشعرية ما لبث أن تعدّل، الى أن تكوّن لدينا الانطباع بأنّ القاسم هو القامة الشعرية الفلسطينية التي جعلت الأرض (فلسطين) الهاجس والمحور الأوحد الذي تتكوكب حوله كلّ الأساطير الذاتية والتراثية، في وجدانية غنائية تستمدّ طاقتها الدرامية، لا من ذاتية ممزّقة الوجدان والانتماءات والخيارات، كما هي الحال مع درويش، وإنّما من إعادة صوغ لآلام الجماعة الفلسطينية التي ينطق الشاعر عنها بلسانه هو. بل إنّ الذاتية البارزة في أعمال القاسم، والغنائية الصارخة فيه، إنما هما صنيعتا ذوبان الأنا، أنا الشاعر الكائن الملتزم الموجود والناطق بلسان الآخر والآخرين المقهورين، وتصعيدٌ للغة الشعرية المتوتّرة دوما، في سبيل حرية فلسطين وشعبها وكرامتهما.
لم تكن أشعار القاسم لتتقدّم الانتفاضة الأولى (تقدّموا) عبثا، ولن تكون قصائده، المضمّخة بنبرة مأساوية تحاكي الجلجلة الفظيعة التي لا يزال الشعب الفلسطيني، والانسان الفلسطيني يمضي في شعابها، لن تعود هذه القصائد، بعد مواراة شاعرها الثّرى في ترابها العزيز، أسيرة اليدين والعينين وحزن القلب. (شاعر من لبنان)

* صمت الحملان / بقلم لينا هويان الحسن 

لم أنس يوما صوتك، ذات مساء ممـطر في شتـاء دمشـقي ملبد بالغيوم.
يومها عاندتُ المطر وتناسيت محاضراتي الجامعية المسائية، وفي باحة المركز الثقافي الكائن بالمزة، تحت المطر حضرتُ الأمسية الشعرية لشاعر أغرمت به لخاطر قصيدة: «تقدموا تقدموا كل سماء فوقكم جهنم، وكل ارض تحتكم جهنم، تقدموا يموت منا الطفل والشيخ ولا نستسلم…».
يومها كانت كل مقاعد المركز محجوزة، ورغم المطر الغزير اكتظت الباحة الامامية للمركز بالحضور ليسـمعوا صوتك وأنت تنشد قصائدك.
خبر رحيلك، جاء ليتواطأ مع أحزان شعوب عربية موزعة على خارطة من الدماء.
هل جاء خبر موتك ليذكرنا بآمالنا التي تشبه أعشابا يانعة، داستها الفيلة؟!
بينما، الفرح، يشبه عروسا، فجأة، امتطت جوادا طائشاً ورحلت.
يوم غنيتَ أحزان فلسطين شعراً، ربما لم يخطر في بالك أن ثمة شعوبا عربية بأكملها، ستُنحر وتُباد، من دون أدنى رفة جفن، والعالم يحمل لافتة كتب عليها «صمت الحملان». . تستغيث الضحية ويصمتُ صدى حوافر خيول «النشامى».
منذ ذلك اليوم الذي بَكَت فيه فلسطين لم يتوقف العرب عن النحيب، والتباكي. .
يموت الشاعر، لينطلق اسمه مثل الأساطير، وليشبه الحكايات القديمة.
وكل الكلمات التي نطق بها يوما، تصبح عميقة، فسيحة بلا حدود.
للكلمات وحدها مأثرة الرثاء، رثاء سميح القاسم أبهى رجالات الثقافة.
ألم يهتف يوماً أندريه مالرو قائلاً: «الثقافة هي كل أشكال الفن والحب والفكر والثقافة هي التي أتاحت للإنسان أن يكون أقل عبودية على مدى آلاف السنين؟»
لهذا الثقافة مخيفة، يهابها مسبقا كل من لديه نيات لاستعباد البشر.
وحدها الثقافة قادرة على تشييد عالم حقيقي واقعي لا ينتمي إلا إلى الإنسان.
بموت سميح القاسم خسرنا آخر الشعراء الذين تزوجوا فلسطين.   (كاتبة من سورية)

* لا أقرّ طقوس الجنازة / بقلم فارس يواكيم 

لم ألتق مرة بسميح القاسم وجها لوجه، لكنني عرفت صوته جيدا. التقيته مرارا عبر التلفون. كنت قرأت أشعاره وسمعت قصائده المغناة، لكن صلة الوصل نشأت عبر ولده وطن القاسم. قبل نحو سبع سنوات، جاء وطن إلى ألمانيا متدربا في الإذاعة الألمانية، وعُهد إليّ به. اكتشفت موهبته بسرعة، ولما عرفت أنه من فلسطين، من سكان الجليل، سألته عن احتمال وجود قربى بينه والشاعر سميح القاسم، فقال: إنه أبي، فعلقت قائلا: «الآن أدركت دلالة اسمك»!
كانت المكالمات التلفونية على فترات متقطعة. أحيانا أنقل لسميح القاسم تحيات الذين يتعذر عليهم الاتصال به من بيروت. ومنهم صديق مشترك: الياس رحيّم. سألني»من وين نبشته؟ هذا شيوعي عتيق وكنا نلتقي في براغ وأحيانا بحضور محمد مهدي الجواهري». وفي مكالمة أخبرته أنني أكتب فصلا في كتابي «حكايات الأغاني» (منشورات رياض الريس) عن قصائده المغناة: «منتصب القامة أمشي (مارسيل خليفة) «ربما» (جوليا بطرس) «زنابق لمزهرية فيروز» (خالد الشيخ ورجاء بلمليح) فذكـّرني بـ «أحكي للعالم» وقد غنتها كاميليا جبران وريم بنـّا وزياد الأحمدية ودينا أورشو، وأخبرني أن عابد عازريه أول من لحن أشعاره (طائر الرماد).
وكانت آخر مكالمة قبل ثلاث سنوات ولم يكن أصيب بالمرض الخطير. كان الكلام في الأدب وفي شعره. استرجعت معه ديوانه «الكتب السبعة» (دار الجديد) وموضوع الموت المتكرر في أبياته «على الماء أمشي/وأحمل نعشي».. «سائر في النوم/ يستيقظ جيراني القدامى في القبور».. «أمشي على حرير/ يستيقظ الميت في السرير» فأحالني إلى مواضع أخرى في الديوان، وها أنا أختار مقطعا منها ليكون تحية الوداع:
«وداعا/ أنا ذاهب في إجازة/ فلا تؤنسوا وحشتي أيها الفقهاء البهائم/ لا تقتلوني/ بشبه البروق الرعود وشبه الأغاني المراثي/ أنا في إجازة/ فلا تقربوني/ ولا تلمسوني/ أقرّ كما تشتهون بأن وفاتي مكافأة للضريح الجميل/ ولكنني لا أقرّ طقوس الجنازة/ أنا أنتفي/ ولا أختفي». سيظل سميح القاسم منتصب القامة، مرفوع الهامة(كاتب من لبنان)

* تقابل الفقراء في قصائدك / بقلم وحيد الطويلة

ماذا نفعل الآن يا سميح، رشقنا محمود درويش من قبل بالحبر المضاء والمضيء، ليس سوى أن نرشقك بالزيتون الذي تعرفه تماما كنسغ أصابعك كطرفة عينك، ألست أنت من حفر اسمه على جذع شجرة لن تطوحها ريح ولن تحرقها نار.
النار لا تحرق أسماء الشعراء يا صديقي، نار العدو تحرق الأجساد والمباني والقلوب الصغيرة والشعارات لكنها لا تحرق الشارات ولا أسماء الشعراء.
كان قرارك ألا تخرج من الأرض، كتب عليك النضال، فيه ولدت وفيه كان خيارك وهكذا عشت، وعلى شاكلته وناره جاءت القصيدة، ربما الخروج يجعل الجملة أكثر إنسانية ويجعل الشعر أكثر رحابة لكن البقاء منحها ضرورة الحياة التي تستحقها وهذا فضلك، من منا يحتاج لأكثر من جعل البقاء في الأرض دلالة على وجودية القضية على حياتها وعلى حيوتيها، انها تأكل وتشرب وتغني كل صباح في وجه الأعداء، لذا كنت تغيظ الاسرائيليين بعدم تركك وطنك.
من زنزانتي الصغرى أبصر زنزانتك الكبرى. أنت سجين في زنزانة وهو سجين في وطنك.
كنت تناضل بالرؤى حين تقول: عراق يا عراق، ما اللغة الفجيعة، ما سنة وشيعة؟ وأنت يا عراق، أمانة الأعناق.
مأزق الشاعر أن يظل في أرض كهذي، وقيمة الانسان والشاعر والسياسي ألا يتعتعه أحد من موضع قدمه.
كسر لك النادل الفنجان بعد أن شربته دلالة على ألا يجوز لأحد أن يشرب منه بعدك، فنجانك المكسور الآن تشرب منه أرواح الأطفال والشهداء ثم ينتهي إلى الأنبياء ليطمئنوا.
هل أنت محرض؟ المباشرة تحريض، كنا نحتاج اليها وما زلنا حتى المباشرة في الحب تحريض على الحب.
تتذكر وأنت طفل حين كنت تغني مع قرنائك «شوفوا شوفوا سعدى الزناتي راكبه الحصان وطالعه ع راس القلعة»، تصعد الآن على رأس القلعة وستطرد ريح نضالك ومفردات شعرك كل الغزاة.
لا تقلق من غيابك الجسدي ستقابل الانبياء والفقراء كل يوم في قصائدك، وستعرفك الزيتونة تماما تلك التي تعرفها كإصبعك.. كوجهك، وستأخذ الجميع اليها ذات يوم.

(*) كاتب من مصر