وليد جنبلاط … الدور والحجم

دافيد عيسى (الديار)

توقفت منذ فترة ليست بقليلة عن متابعة معظم البرامج السياسية وخصوصاً تلك التي تسمى ” توك شو” ( TALK SHOW) والتي باتت أقرب إلى حفلات شتائم وتخوين وتوزيع شهادات بالوطنية، وفقدت كل عناصر الحوار والتحليل السياسي الموضوعي، وقد تحولت معظم هذه البرامج إلى استعراضات بعيدة عن كل موضوعية، فهي لم تعد تستهويني لما فيها من هبوط في مستوى بعض الضيوف إضافة إلى الانحطاط في التخاطب السياسي وتمسك كل ممثل لفريق أو محلل سياسي مقرب لفريق برأي فريقه السياسي ، والذي اصبح مع الاسف اسطوانة معروفة الكلمات والالحان، أضف إلى ذلك تسخيف و  “تسطيح ” المواضيع وتكرار واجترار لأفكار ومقولات… والأهم من كل هذه الأسباب قناعتي كما معظم اللبنانيين ان أغلبية هؤلاء الأشخاص لا يقدمون ولا يؤخرون في السياسة اللبنانية وان كل ما يقولونه لا يعدو كونه تنظيراً ومزايدات وعنتريات تزيد في شحن النفوس وتعمق الشرخ بين اللبنانيين.

قبل أيام وبينما كنت اُنَقل بين المحطات التلفزيونية شاءت المصادفة ان يقع نظري على مقابلة للزعيم الدرزي وليد جنبلاط على قناة الجديد مع الاعلامي الرصين والمميز جورج صليبي فوجدت نفسي مشدوداً إلى متابعتها باهتمام وشغف لما تضمنته من أفكار جديدة وقيّمة تعكس اتزاناً وتوازناً وبراغماتية وواقعية عند صاحبها رغم كل ما ينعت به من مزاجية وتقلبات في مواقفه خدمة وحفاظاً على مصالحه ومصالح طائفته.

 وعلى وفرة ما ورد في هذه الاطلالة فان أكثر ما استوقفني في كلام جنبلاط هو تناوله للأزمة السورية وانعكاساتها على لبنان بطريقة تدل على إدراك عميق لخطورة ما يجري في سوريا من مخطط دولي لتقسيمها في إطار مخطط يطال المنطقة العربية بأسرها، وهذا ما دعاه لتحذير الجميع وبطريقة صارمة من الدخول في المستنقع السوري وتجنيب لبنان ارتدادات هذه الأزمة وإبعاد هذه  “الكأس المرة المسمومة” قدر الامكان عن الجسم اللبناني الوهن والضعيف أصلاً… كما تميّز حديثه بجرأة وصدق خصوصاً عندما صارح حزب الله رغم ما يربطه به من وشائج ومصالح بأن يخرج من سوريا وان كل ما يتصوره انتصاراً في معاركه هناك بما في ذلك معركة يبرود ليس انتصاراً بل مزيد من التورط والانزلاق في الوحل السوري وكلما طال الزمن يصبح من الصعب الخروج منه… وهذا هو الرأي الذي لا يخفيه ويجاهر به، وحاول اقناع حزب الله فيه عدة مرات انطلاقاً من قناعة لديه بأن ذلك يحمي حزب الله ولبنان ايضاً.

من يتابع وليد جنبلاط يتبين له ان هذا الرجل قلق جداً على المصير والمستقبل وهو على حق في ذلك، لذلك نراه مؤخراً يطالب وبكل قوة بتحييد لبنان حتى لا يخسر أمنه واستقراره ووحدته ولا يتدحرج وضعه الهشّ إلى الفتنة والانفجار نتيجة الصراع  السني – الشيعي الذي بلغ مرحلة خطيرة جداً. كما كان واضحاً أيضاً ان الهمّ الأكبر الذي يقضّ مضجع جنبلاط ويقلقه كثيراً هو كيف يمكنه ان يحافظ على الطائفة الدرزية في سوريا ولبنان ويساهم في إبقائها على الحياد وفي منأى عن الصراع المدمر الذي أصاب كل الطوائف والمكونات السورية في الصميم.

حتى الآن يُحافظ الدروز في سوريا على وضعية مقبولة مقارنة بأوضاع وأحوال الطوائف والأقليات الأخرى. أما في لبنان فان الطائفة الدرزية تقف عملياً خارج نطاق الصراع السني-  الشيعي وتجهد كيلا تكون من وقوده وضحاياه وهذا موقف حكيم وعاقل، لكن إذا أردنا ان نكون منصفين وعادلين يجب علينا القول ان هذا الوضع لم تكن الطائفة الدرزية لتبلغه لولا الواقعية السياسة والمدروسة التي اتبعها جنبلاط وفهمه العميق للتوازنات اللبنانية الدقيقة وللقواعد الاقليمية والدولية وهذا ما يسجل له.

 وليد جنبلاط لم ينجح فقط في ان يضع الدروز في موقع “مريح” نسبياً مع انهم مع سائر اللبنانيين موجودون في بحر هائج ويصارعون الأمواج والعواصف من اجل تمرير هذه المرحلة الخطيرة والحساسة بأقل قدر ممكن من الخسائر، بل يسجل لجنبلاط ايضاً اعطاؤه لطائفته دوراً سياسياً أكبر من حجمها الواقعي و ” العددي ” في المعادلة واللعبة السياسية الداخلية.

الطائفة الدرزية الكريمة وبفضل وليد جنبلاط وليونته ومواقفه التي تثير الجدل احياناً كثيرةً لم تعد تُقاس بحجمها وعددها، فرغم انها مصنفة خارج الطوائف الثلاث الكبرى، إلا أنها تقاس اليوم بدورها الذي ابتكره وليد جنبلاط بذكاء وحنكة وحكمة وهو الدور الذي يقيم توازناً بين السنة والشيعة من دون انحياز مطلق إلى فريق دون آخر، وهذا يوحي على انه دور للتقريب والتوفيق بين الطرفين فيما يشبه ” الحياد الايجابي ” .

الدور الذي يمارسه جنبلاط والذي يتسم بالكثير من الحكمة وبعد النظر، دور واع وواقعي في ظل خطر فعلي يهدد البلاد والعباد، من هنا فان مواقف وليد جنبلاط هذه المرة تتجاوز المصلحة الشخصية والفئوية إلى المصلحة الوطنية أولاً ومصلحة طائفته ثانياً في ظل وضع خطر ودقيق.

أدى وليد جنبلاط دوراً مميزاً في تسمية الرئيس تمام سلام لتشكيل الحكومة الجديدة وفي نقل المعادلة واللعبة السياسية من ضفة 8 آذار المنفردة، إلى ضفة 8 و 14 آذار المشتركة. وعندما سنحت لحظة اقليمية مؤاتية لتشكيل الحكومة والإفراج عنها كان جنبلاط سبّاقاً إلى إقتناص هذا الفرصة والحث على عدم إضاعتها وتفويتها، وسارع إلى جس نبض جميع القوى السياسية وتشجيعها على تشكيل حكومة مصلحة وطنية وظهر ذلك من خلال حركة سياسية ناشطة ومكوكية قام بها وائل ابو فاعور هذا الشاب الموثوق به من جنبلاط والذي ترتاح إليه معظم القوى السياسية مما قيّض لهذه الحركة ان تكون منتجة ومثمرة.

ان الدور الإيجابي الذي تولاه جنبلاط في الملف الحكومي ينسحب ايضاً على الاستحقاق الرئاسي وهذا ما يحاول ان يقوم به من خلال اتصالات بعيدة عن الاعلام والأضواء حتى لا نقع مرة جديدة في الفراغ القاتل الذي يدفع بنا إلى الفوضى والمجهول.

 وليد جنبلاط ورغم صغر كتلته فان له دوراً كبيراً وأساسياً في ترجيح كفّة الاتجاهات والاحتمالات. ففي زمن المعادلات “الخشبية والذهبية” يزين جنبلاط المواقف والخيارات والعلاقات بـ “ميزان الذهب”، وفي صراع الأوزان الثقيلة يشكل الزعيم الجنبلاطي بيضة القبان والعامل المرّجح… وهذان ” الموقع الوسطي ” و ” الدور المرجح ” لعب الحظ والصدفة في تكوينهما، إذ لم يكونا ممكنين ومتاحين لو لم يكن في البلد صراع حاد وانقسام عمودي بين فريقين كبيرين ومشروعين متقابلين… ولكن الحظ وحده لا يكفي إذا لم يكن هناك من يتقن سياسة فن  “الممكن والواقع ” وفن إدارة التناقضات والتوازنات، ومن يفهم التعقيدات والألغاز والألغام اللبنانية ويحسن التعامل معها…

وكذلك لفتني كما العديد من اللبنانيين مواقف جنبلاط الأخيرة ولشهور وأسابيع خلت، والتي تجلّت بدفاعه الواضح و ” القوي ” عن الجيش اللبناني ودعوته الملحّة إلى تأمين كل المقوّمات والمستلزمات التي تمكّنه من أداء دوره ومهامه وفي مقدمها محاربة الارهاب وضربه قبل ان يترّسخ وينجح في إقامة شبكاته وبناه التحتية وفي استدراج الحرب السورية إلى لبنان. وفي يقين جنبلاط، ان الجيش هو خشبة الخلاص وصمام الأمان وان دوره حاسم وأساسي في القضاء على الارهاب كخطر داهم وأيضاً في القضاء على الفتنة وقطع دابرها وكل أشكال التواصل والتفاعل بين الأزمة السورية والوضع اللبناني.

وأنا أحدّق في سياسة وليد جنبلاط ومن دون إخفاء علامات التقدير والاعجاب بهذا الدور يراودني سؤالان وأطرحهما بكل غصة وأسف على حالنا كمسيحيين:

1 – لماذا لا يكون للمسيحيين الدور والموقع اللذان يناسبان حجمهم ومكانتهم ومسؤولياتهم التاريخية؟ ولماذا لا يكون لدى القادة المسيحيين شيء من سياسة “الحياد الإيجابي” والتوازن المدروس والدقة المتناهية التي ينتهجها وليد جنبلاط ؟

أيها السياسيون المسيحيون اسمحوا لي ان اقول لكم بكل احترام أنه إذا كان هناك من يعتقد ويتصوّر منكم ان توزعكم بين الفريقين السني والشيعي وتحالفكم السياسي المبرم مع تيار المستقبل من جهة وحزب الله من جهة ثانية يحقق عبر ذلك تحييداً للمسيحيين عن الصراع السني والشيعي وتبعاته وتداعياته فانكم في تصوركم واعتقادكم واهمون لأن واقع الحال يفيد ان المسيحيين منقسمون في سياساتهم وعلى ذاتهم وانهم ملحقون وتابعون لهذا الفريق و ذاك… وهم من هذا الموقع ليسوا قادرين على ممارسة دور فاعل ومؤثر في مجريات الصراع السني – الشيعي اذا صار مفتوحاً على التسوية والحل، وكذلك هم غير قادرين على تفادي أضرار هذا الصراع ومساوئه إذا سلك طريق التصعيد والتصادم. وبأختصار يُخشى في وضع وتموضع كهذا ان يدفع المسيحيون ثمن أي صراع إذا انفجر وان يكونوا من ضحاياه، مثلما يُخشى ايضاً ان يدفعوا ثمن اي تسوية إذا عقدت وان تكون على  حسابهم…

2– لماذا لا يتكاتف السياسيون الموارنة للاضطلاع بهذا الدور والقيام بدور التوفيق والتقريب بين السنة والشيعة، وإقامة توازن سياسي في هذا الصراع، وخلق مساحة سياسية – جغرافية عازلة بين الطرفين المتصارعين…

وفي الختام أقول … أيها السياسيون المسيحيون ترفعوا عن احقادكم ومصالحكم، اجلسوا إلى طاولة واحدة، تحاوروا واضعين نصب أعينكم المصلحة المسيحية العليا فوق كل مصلحة شخصية وخاصة، فالوقت لم يعد يحتمل “دلع” وأحقاداً وصراعات.

اسعوا إلى تولي دور يشبه الدور الذي تولاه وليد جنبلاط في الفترة الأخيرة والذي يصب في مصلحة طائفته أولاً وفي مصلحة لبنان ثانيا،ً اسعوا لتأدية دور متوازن بين ( السنة والشيعة) وساهموا في تخفيف حدة هذا الصراع المذهبي الخطر الذي سيطال الجميع إذا لا سمح الله تطور أكثر…

مسؤولياتكم كبيرة تنازلوا لمصلحة المسيحيين ولمصلحة لبنان… فالتاريخ لن يرحم.