أعمال أناشار بصبوص في بيت الدين.. منظومة هندسية متكاملة

ضحى عبد الرؤوف المل – اللواء

تتصل الأشكال العميقة فنيا ببعضها لتؤلف قطعة تشكيلية حديدية ذات جوهر ابداعي صلب، متصلة بخطوط ومنحنيات وفراغات. تعطي لمادة الحديد شكلا ديناميا عقلانيا، يعتمد على الحس العاطفي والانفعالات الايقاعية المتناقضة مع مادة الحديد المطروق او اللحام، وقوة الحرارة القادرة على تطويع جبروت هذه المادة، وطواعيتهاالمرتبطة بطبيعة الخامة النحتية أو البنائية المسؤولة عن نسيج فضائي يحتوي على أبعاد فنية تترجم اللغة البصرية أو النحتية البنائية التي يجمعها «اناشار بصبوص» في مقعرات مملوءة بالخطوط العشوائية الأبرية، الشبيهة بالغصون المتكسرة والتضاريس الالتوائية ذات المستويات المتناقضة في الأحجام المنسجمة مع الرؤى الفاعلة بصريا، ومع جماليات التنوّع والقدرة على الاستقراء في الكتل والفراغات والأبعاد واللون والضوء.

يتعامل «اناشار بصبوص» مع مادة الحديد كعازف هارمونيكا، فالرقة المتناغمة والمتناهية مع مادة صلبة تجعله يتحدى الفضاءات الخارجية، لاظهار جمالية الفضاءات البصرية، والعلاقة الجدلية الحميمة بينه وبين مادة بيولوجية تتأثر بكل ما حولها، ليؤكد على أهمية البعد الرابع في كل عمل فني ابداعي، جسّد من خلاله تصميما بنائيا له زمكانيته في بعد رابع حسي وتكويني، من أجل الحصول على شكل حركي يتخطى الأبعاد ونقاط الالتقاء، وتنعكس جماليته الهندسية على التكوين البصري، والمؤثرات المعمارية التي أظهرها «اناشار بصبوص» بمرونة تكنيكية تجريدية من خلال الفضاءات الخارجية لكل مفهوم حسي داخل المنحوتات البنائية التي تدل ألوانها المحفوفة بالصدأ على التغيّرات الزمنية التي تطرأ على المادة بفعل البعد الرابع.

حركة دينامية ذات مسارات دقيقة ومستويات ترتكز على مفاهيم معرفية، وإدراكية لمتناقضات صنفها تبعا لكل حركة لا يفارقها الضوء أو الظل المنسجم مع زوايا النقاط، في كل فراغ تتداخل فيه الأبعاد الزمنية الماضي والحاضر والمستقبل، وتحقق الوضوح في نقاط رؤية وزعها بهارمونية ديناميكية لها موسيقاها التي تجعلنا نتأمل كل مجسّم من كل الجهات، وبالأخص من الأعلى الى الأسفل، ومن الخارج الى الداخل المتشابك فضائيا مع الزمن المتكوّن في بناء يضفي فكرة التجدد، والقدرة على التفاعل مع الفراغ والادراك البصري، فالتكرار العشوائي في الخطوط والاتجاهات التي تعتمد على حركة المتلقي، ليتسنى له كشف المعنى الداخلي لكل عمل ابداعي صممه «اناشار بصبوص» وترك فيه فلسفته الخاصة.

يطرح اناشار تساؤلات معمارية من خلال مادة الحديد، مما يجعلنا نسترجع مفاهيم العلاقة بين الفراغ والزمن، والتأثيرات البصرية للأبعاد والقدرة البصرية على اجتذاب الضوء، لندرك مرئيا قيمة الفراغات المفتوحة وابعادها في كل مجسّم تبرز من خلاله الحركة البصرية، وتحوّلاتها ومتغيّراتها اللحظية المقترنة بذاتية زمنية آنية، ومتتالية تحتفظ بجمالية موضوعية تتكرر وفق مقاييس نابعة من قوى طبيعية تؤثر على المادة التي تستقطب الحرارة والبرودة وفقا للمكان الموجودة فيه والحالة النفسية والمزاجية للمتلقي.

يقول كانط: «ان الزمن لا وجود له في الواقع الخارجي فهو صورة للحس الداخلي للانسان». خصوصية بنائية معمارية في المجسّمات التي قدّمها «اناشار بصبوص» بميول تصميمية وتكوينات فراغية متلاحمة، ومتنافرة يمكننا من خلالها لمس تقنية ترصد التطورات الزمنية لمجسمات ثمانية تشبه الأبواب المتعددة التي نستطيع من خلال مساراتها التكنيكية رؤية حضارة معمارية، تظهر مدى قدرة الانسان الفكرية المتصلة بالواقع، ويمؤشرات تحمل حركة خارجية مفتوحة زمنيا نحو سرعة الضوء وفضاءات التصميم، وواقعية مادة الحديد والجمالية المنبثقة من عدة نفاط تخيّلية نتتبع من خلالها الحركة داخل كل فراغ عير مسافة بصرية في بناء مادي ملموس ذي تقنية عالية.
تأثيرات ضوئية ايهامية ناتجة عن التضاد المرئي، وخطوط جامدة وثابتة يلمسها البصر كحقيقة تتناقض مع الاحساس والحركة في كل فراغ تم تكوينه، لخلق محاكاة فعلية مع الأجسام وتشكيلاتها المتماهية والمتناسقة من خلال الخطوط، والعناصر والوحدات التي توحي بالقوة والتماسك الملائم، لمادة حديدية غلفها بصدأ لوني مؤثر بتدرجاته واختلافاته حسب تعرّضه لضوء الشمس.

استقامة وانحناء، اتساع وضيق، بساطة وتعقيد، انفتاح وانغلاق، تنوعات في الأشكال والأحجام، فراغات لا نهائية ذات صلة بثلاثية الانسان – الفراغ – المادة لترتبط الأفكار مع بعضها، فنشعر بتفاعل يعتمد على السمات المختلفة لكل منحوتة مفتوحة بصريا نحو الضوء، وتحتوي على مفهومين لفراغ سلبي وإيجابي، وكأنه يصمم منحوتة هي كتلة تجعلنا نرى تصميمات فرعونية ما بداخلها ممتد وخارجها حركة ذات انطباع منتظم يحقق جمالية تثير الاحساس بالسكون.

يفتح «اناشار بصبوص» طاقات الحس الوجداني، ليلتقط المشاعر العميقة في مادة أظهر جمالها رغم قوتها، وبث فيها الحياة بلونها النقي أو بلونها الزمني الصحرواي المائل الى الحمرة، فهي معدنية ترابية صلبة متناقضة مع ذاتها ومتجانسة مع التصميمات الحسية التي قدّمها اناشار من خلال منظومة معمارية هندسية متكاملة المعنى والمبنى، والرؤية والتكوين، والهيئة والشكل، والمحاور المتعلقة بعلاقة الانسان مع المادة والادراك الزمني، المرتبط أساسا بالحس الوجداني وبالتفاعل مع المكونات والنسب الوظيفية، المتلائمة مع الطول والعرض في كل منحوتة تحتوي على أشكال منتظمة، لفراغ يتسع او يضيق كالمربع أو الدائرة أو المستطيل، مما يمنح المتلقي الاحساس بالسكون والمسافات الطولية التي توحي باستمرارية الحركة اللانهائية وانصياع البصر الى الأعلى دائما.
تتنوّع الفراغات في منحوتات «اناشار بصبوص» كما تتنوّع الخطوط، فالفراغات مقفلة من كل الجوانب غالبا أو مفتوحة من مداخل مختلفة، كتعبير موسيقي له نظمه الخاصة، وقدرته على التجريد بديناميكية تمنح الاحساس صورة تمثل رؤية ذهنية لها البعد الوظيفي، والاتزان الايقاعي الملائم جماليا لكل حركة في تصميم حقق من خلاله خلق وجوها هندسية تعتمد على البعد الرابع وعلى قدرة الانسان في تسخير مادة فيها بأس شديد.

أعمال اناشار بصبوص النحتية في مهرجانات بيت الدين ويستمر حتى 10 آب 2013.