النفوذ الإيراني في العراق ولبنان وانعكاسه في سياستهما تجاه سورية

طوني فرنسيس (الحياة)

ثلاث دول عربية هي العراق والأردن ولبنان، تحيط بسورية، اضافة إلى تركيا من الشـمال وإسـرائيل التي تحتـل الجـولان من الجنوب الغربي. وتتـلقى كـل من الـدول الثلاث انعكاسات الحرب الدائرة في سورية، خصوصاً مشكلة اللجوء، وتتفاعل معها بأشـكال مخـتلفة، وتتنـوع المـواقف الرسمـية فيـها وفق طبيعة الأنظـمة وموازين القوى الداخلية وامتداداتهـا الخارجية. وفيما يتميز الأردن عن شـقيقيه اللبناني والعراقي في سلوكهما تجاه الأزمة السورية، سرعان ما نكتشف أن سر هذا التـميز يكـمن في درجـة الابتعاد عن إيران…

طوال فترة الصدامات الدائرة بين قوات النظام وبين معارضيه في الجيش الحر وسائر فصائل الثوار، لم يظهر أن العراق يشكل أرضاً مفضلة للجوء، وفي الأساس لم يفرض الصراع في مناطق سورية الشرقية المحاذية للعراق نزوحاً كثيفـاً، وفي المناطق ذات النسبة الـعالـية من السكان الأكراد وجد هؤلاء في إقليم كردستان ملاذاً آمناً، واستقبل العراق في المنطقة الحدودية الوسطى بضعة آلاف من اللاجئين، وسط قرارات متناقضة حول فتح الحدود أو إغلاقها واكبت تناقضات السياسة العراقية الرسمية التي انتقلت قبل الانتفاضة في سورية، من تحميل النظام مسؤولية التفجيرات داخل العراق، إلى دعم نظام الأسد والتحذير من أن سقوطه سيؤدي إلى انفجار الأوضاع في لبنان والعراق ودول المنطقة.

البلبلة التي سادت موقف الحكومة العراقية بدت في المرحلة الأولى انعكاساً لطبيعة توزع القوى داخلياً وترجمة أمينة لتوجهات المرجعية الخارجية التي تستند إليها حكومة نوري المالكي، وهي مرجعية أميركية إيرانية.

كانت إيران في تلك المرحلة مطمئنة إلى قدرة الأسد على حسم المعركة سريعاً لمصلحته، فيما استمر الموقف الأميركي على نظريته في» تغيير سلوك الأسد»، وفي الداخل تعاطى إقليم كردستان بحذر مع الثورة المجاورة مهتماً على نحو خاص بأكراد سورية ، فيما كان قادة السنة العراقيين يخوضون معركة دفاعية تراجعية منذ لحظة «سلبهم» رئاسة الحكومة بعد انتخابات ٢٠١٠ البرلمانية.

أتاحت تلك المعطيات الداخلية والخارجية للحكومة العراقية اتخاذ مواقف متميزة ومحايدة إلى حد ما، في إطار جامعة الدول العربية ثم في القمة العربية التي عقدت في بغداد، حتى إنها تقدمت بمبادرة للحل في سورية أطاحتها التطورات اللاحقة وإصرار النظام على الحل الأمني. هذا «الحياد» بدأ بالتآكل السريع، ليس فقط نتيجة انسداد أفق التسويات والمبادرات العربية ثم الدولية، وإنما بسبب التقدم الذي بدأت المعارضة إحرازه على الأرض متواكباً مع خطوات تنظيمية توحيدية اتخذتها المعارضة، مدعومة من قسم كبير من دول العالم وفي مقدمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي.

أطاحت وقائع الأرض في سورية التوازن الرسمي في بغداد فعدّل المالكي موقفه لمصلحة دفاع أشد عن نظام الأسد، وانضمت إليه مجموعات عراقية مرتبطة بإيران، في ما بدا استجابة لقرار متخذ في طهران بالدفاع عن نظام الأسد حتى النهاية. وما كان لهذا التحول إلا أن يصب زيتاً إضافياً على التوترات المذهبية الداخلية التي تتصاعد إلى حد جعل العديد من الساسة العراقيين يحذّرون من «حرب طائفية» كالتي شهدها العراق في العامين ٢٠٠٦ و٢٠٠٧.

جامع مشترك

هناك نقاط تشابه عدة بين الموقف العراقي والموقف اللبناني مما يجري في سورية، إلا أن الجامع المشترك هو النفوذ الإيراني الذي يسعى عبر العراق ولبنان إلى تأمين دعم جدي للأسد، تحت شعار وحدة قوى المقاومة والممانعة التي تواجه في سورية مؤامرة كونية. ولا يخفى أن الشعب السوري لا يجد مكاناً له في هذه النظرية، فلا ضحاياه الذين فاق عددهم الـسـبعين ألفاً ولا معتقلوه وهـم بعشرات الألوف ولا مـشردوه ونازحوه الذين تخطوا عتبة الثلاثة ملايين داخل سورية وخارجها يعنون شيئاً عندما تتعرض «الممانعة» إلى خطر.

لم يكن للنظام السوري حضور في المشهد العراقي الداخلي. كان البعثان في كل من بغداد ودمشق في حال عداء أبدي مستحكم، ولم يستمر الصلح الذي فرضته زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس إلا أشهراً قليلة قبل أن ينفرط عقد ميثاق العمل القومي وتستعاد حالة الصدام، والجديد فيها ابتداء من العام ١٩٨٠ التحالف السوري – الإيراني ضد صدام حسين في الحرب العراقية – الإيرانية. وفي المعارك المفتوحة اللاحقة سيصبح لبنان ساحة توطد التحالف المستجد وتوفر لإيران مدخلاً لنفوذ إضافي عبر النافذة السورية.

طوال أكثر من 40 سنة بنى نظام الأسد منظومة أمنية وسياسية ومالية في لبنان ضمت شخصيات وعائلات وأحزاباً، وابتداء من منتصف الثمانينات بدأت إيران تقاسمه هذا النفوذ. اتجهت إلى تبني ودعم مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي أرادتها موقوفة حصراً على تنظيم يتبنى أيديولوجيتها، وأبقت لسورية شؤون السياسة والاقتصاد والأمن. بقيت سورية في الواجهة لدى إدارة الشأن اللبناني لأسباب عربية ودولية إلا أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام ٢٠٠٥ سيخرج النظام السوري من لبنان ليتحول حزب الله إلى المدافع الأول عن مصالح الأسد وطهران دفعة واحدة، عبر تحوله إلى قائد فعلي قادر على جمع مختلف القوى التي دعمتها دمشق وجعلتها على مدى عقود، أداتها المحلية في دولة لبنان، وأضافت إليها قوى جديدة كانت سابقاً في موقع نقيض.

خرج الجيش السوري من لبنان ليتبين أن نظام الأسد ترك في هذا البلد بنية سياسية تابعة ومتماسكة أقوى بكثير من البنى التي أقامها داخل سورية نفسها. فقد انهارت بنى السلطة البعثية في مدن ومناطق سورية عدة خلال شهور قليلة من النزاع الداخلي إلا أن المنظومة التي بناها السوريون أبان هيمنتهم على لبنان بدت أقوى وأشد بأساً من أجهزة الاستخبارات وفروع الحزب القائد في حلب وحمص والرقة ودرعا وغيرها على امتداد الأرض السورية. وعبّرت هذه البنية عن نفسها في حضور قوي داخل الحكومات اللبنانية المتعاقبة وصولاً إلى الحكومة الحالية التي يُجمع كثيرون أنها تشكلت بناء لقرار الأسد شخصياً.

عندما تدهورت الأوضاع في سورية كان طبيعياً أن تنقسم القوى السياسية في لبنان بين مؤيد للنظام ومؤيد لمعارضيه، لكن كفة المؤيدين بدت راجحة خصوصاً أنهم يشكلون الأكثرية الحكومية، ويتمتعون بمشروعية شعبية معينة ساهمت السلطات السورية في توطيدها سابقاً وحان توظيفها اليوم. وفي المقابل هناك قسم كبير من القوى السياسية والشعبية يتعاطف مع المعارضة وهو ذو وزن أكيد لكنه خارج السلطة والقرار الرسمي.

اختلف تفاعل العراق مع الأوضاع السورية جذرياً عن طريقة تفاعل لبنان. الحكومة العراقية بدت محكومة بحاجات العمق الإيراني صاحب النفوذ الأول فيها، فيما الموقف الرسمي اللبناني بدا عصياً على التطويع رغم النفوذ الإيراني وشبكة المصالح السورية المتجذرة. ولم يكن تميز الموقف الرسمي اللبناني ليحصل لولا إرادة شعبية عميقة لدى جمهور اللبنانيين بضرورة عدم الانغماس في المشكلة السورية الداخلية وضرورة الاستجابة الإنسانية لحاجات النازحين السوريين الهاربين من جحيم بلدهم. وعبّر رئيس الجمهورية ميشال سليمان بدقة عن الموقف الرسمي في أربع محطات بارزة: الأولى لدى جمعه القوى السياسية المشاركة في الحوار الوطني وإصداره إعلان بعبدا الذي يكرّس حياد لبنان تجاه ما يجري في سورية، والثانية لدى تكراره إدانة الخروق السورية للحدود ومطالبته بوقفها، والثالثة لدى دعمه السير في التحقيقات المتعلقة بمخطط مملوك – سماحة حتى النهاية، والثالثة عندما أصرّ على التأكيد أمام الأمم المتحدة في مؤتمر المانحين في الكويت أن لبنان لن يقفل حدوده أمام اللاجئين وسيقوم بواجبه تجاههم في وقت علت الأصوات العنصرية من جانب مسؤولين في الحكومة تطالب بمنع هؤلاء من القدوم إلى لبنان.

استحق سليمان تقديراً عربياً ودولياً لموقفه لكن البنية السورية الإيرانية في لبنان لم تذعن لما يراه رئيس الجمهورية مصلحة لبنانية عليا، ففتحت نيرانها ضده وإن بقذائف مبتلّة وهدّافين متقاعدين. إلا أن هذا الموقف الذي اتخذه لبنان على مستوى رئيسه هو الذي سيحفظ لاحقاً قدرة البلد الصغير على لعب دور إيجابي لمصلحة الشعب السوري وعلاقاته المستقبلية مع الشعب اللبناني، ولمصلحة لبنان المستقل الموحد أولاً وأخيراً.