فكر كمال جنبلاط لا يزال بوابة المستقبل! / بقلم د. محمّد شيّا

يقول غوته، كبير الشعراء الألمان، في ملحمته “فاوست”:
“من ذا الذي يجرؤ
أن يسمّي الأشياء بإسمها الصحيح!
إن القليلين الذين وفّقوا
إلى فهم أسرار الكون،
وبلغت بهم [الشجاعة]
أن أباحوا بمكنونات صدورهم….
فكان جزاؤهم
أن قتلوا أو صلبوا أو أحرقوا!” (ص 15)
هي ذي “جريمة” كمال جنبلاط: لقد تجرأ، على ما لم يجرؤ عليه سياسي لبناني بل عربي من قبل!
لقد تجرأ على قول الحق في وجه الباطل السائد والطاغي في الزمن العربي الرديء، زمن الجهل والاستبداد الذي عاصره كمال جنبلاط وحاول وحيداً تغييره. لذلك أسميت كتابي عنه: “كمال جنبلاط … لزمن آخر!”، وكان عليّ ربما أن أضيف “ولمكان آخر!” – أيضاً.

فهذا الشرق الذي كان يوماً ما حديقة للملائكة، تحوّل منذ سبعينات القرن الماضي مسرحاً للشياطين!

وحين أدرك كمال جنبلاط، إلى ذلك، الوظيفة الموقوفة للكيان اللبناني، وأنه مجرد كيان – ساحة، وحاول أكثر من ذلك الاعتراض والتمرد على القدر البشع المكتوب لهذا البلد والانتقال من لبنان الفندق – الساحة لجيرانه إلى لبنان الوطن – النموذج الحضاري للعرب، كان عقابه المباشر الموت اغتيالاً.

وكمال جنبلاط كان يعرف ذلك، وكان يتوقعه. و”هذه وصيتي” آخر كتبه شاهد على ذلك، وكذلك مقالته الأخيرة “اللهم إشهد إني بلغت”، بل هو ودّع المختارة ومكتبته الضخمة قبل ساعات من قتله اغتيالاً.

ما نؤكد عليه في ذكرى مولده، هو أن فكر كمال جنبلاط هو في أساس وبرامجه، وسياساته، ويجب العودة إليه باستمرار. إشتمل فكر جنبلاط على كل ما يعني الإنسان: من أدب السلام والجلوس والحديث، إلى السياسة، فالاجتماع والاقتصاد، إلى الدين والتصوّف، إلى الفلسفة والعقل، إلى أولى استقطابات الوجود، وأخيراً إلى أرق الشعر وأغناه: مغامرة جميلة ممتعة بل مثيرة لا تتكرر. لكن الرحلة تلك، ولأنها شاملة ومركّبة، فهي تحتاج إلى وقت كاف لالتقاط إشاراتها وأعماقها وقوة منطقها وجمال شكلها، لذلك سأختصر أبعاد فكره وأحصرها في أهم الموضوعات والأزمات التي تناولها تحليل كمال جنبلاط ونقده، ثم أهم العناوين التي تشكل برأي جنبلاط المفتاح أو المفاتيح للأزمات الخانقة بل المميتة التي تمسك بأعناق الإنسان المعاصر، على مستوى الحضارة البشرية الراهنة عموماً، ثم على مستوى العالم العربي، نزولاً إلى المستوى اللبناني المحلّي.

رأى كمال جنبلاط، على المستوى السياسي والحضاري، من خلال ثقافته الموسوعية ومعرفته بلغات ثلاث أو أربع، ومن متابعته اليومية الثاقبة، أن الحضارة البشرية التي نحياها منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى سبعينات القرن العشرين حضارة مأزومة، تكاد تختنق في كل مجال بشباك صنعتها بنفسها. فهي منذ قرن من الزمان أو يزيد تدخل الأزمة بعد الأزمة، وكل واحدة تجلب إلى بلدان العالم، حتى المتقدمة، انهيارات وإفلاسات مالية واقتصادية، وإلى المجتمعات أزمات اجتماعية لا تحصى من البطالة والتفاوت الطبقي الصارخ إلى الميل المتزايد إلى الجريمة لا تردعها إلاّ شرطة مدججة بأعلى تقنيات الأسلحة والمعلومات وسجون هي أضخم من المدارس والجامعات وبميزانيات هائلة لو صرفت في معالجة أسباب الجريمة وبخاصة ما اتصل منها بضمانات للعمل والسكن والطبابة والتعليم وتوفير الخدمات والتخلّص من عبودية الإنسان واستلابه وغربته في هذه المجتمعات التي تسمى حديثة، لما شهدت بالتالي هذا الحدّ من الجرائم ولما احتاجت هذه الأعداد من الشرطة والمحاكم والسجون.

وباختصار، عن أية حضارة راهنة ننحدث؟ حضارة أقل ما يقال فيها، بتوصيف دقيق ومن دون مبالغة أنها:

حضارة صُورٍ مُبهرة، لكنها صور سطحية من دون عمق، وزائفة من دون أصل، ومخادعة تعمل بكل ما أوتيت من إمكانيات على التمويه على حقيقتها وعلى إخفاء طبيعتها وتضليل الناظر إليها بواسطة سلسلة هائلة معقدة من شبكات الترغيب والترهيب، من مصارف وشركات مالية وأدوات إعلام وتواصل تعمل ليل نهار على اختراع وتعميم بل وفرض صورة زاهية للمجتمع الرأسمالي الحديث، مغايرة للحقيقة ومنافية للواقع. وعلى مليارات البشر أن يصدّقوا هذه الصورة وأن يعملوا بموجبها، ولو اقتضى الأمر استخدام القوة. وعلى البشر لذلك أن يبتلعوا ألسنتهم فلا أسئلة ولا من يسائل، ولا حتى أن تسأل كيف ينجح صيرفي أو سمسار مقامر في وول ستريت في أن يسرق 50 مليار دولار في أزمة سنة 2009 من ودائع المودعين؟ ولا أن تسأل: بأي حق تمنح أرضاً ليست لك (فلسطين) لشعب لا حق له فيها؟ وبأي حق تجعل نفسك شرطياً على مستوى العالم، فتمنع الشعوب من أن تعبّر عن نفسها، وتمنح نفسك سلطة أن تختار للبشرية نوع أفكارك وثقافتك وسياستك؟

هذه هي المدنية المادية السائدة التي وجّه لها كمال جنبلاط سهام النقد والتحليل والتفكيك، وبيّن قبل سبعين سنة أو أكثر، أنها مدنية سطحية زائفة لا تنتج غير الأزمات، مدنية تزعم أنها عاقلة فيما عقلها في جيبها أو محفظة نقودها، وتزعم أنها سعيدة فيما سعادتها في بطنها لا في روحها. وتزعم أنها إنسانية فيما الأنسان (والشعوب) لها مجرد موضوع لا ذات، وسيلة لا غاية، وحقل تجارب لحكوماتها وجيوشها ومصارفها ولتسلط طبقة صغيرة فيها من الأثرياء والأقوياء والمديرين الجدد، تتضاعف ثرواتهم بين ليلة وضحاها، وفي وسعهم أن يختاروا بلداً ما فينهار اقتصاده ويتشرد أهله في ساعات، أما سلاحهم في ذلك كله فالبورصات والأسهم والشركات المالية حصنهم المنيع، يصنعه تحالف رجال المال والصناعة والسلاح والنفط وشياطين التقنيات الحديثة، وتحرسه على مدار ثواني الساعة جيوش من الشرطة العلنية أو السرية والسجون والمحاكم.

لا مكان للإنسان في هذه المدنية، أو ما نسميها اليوم بالعولمة التجارية، ولا مستقبل له ولأولاده في شبكاتها، وأقصى ما هو متاح للأكثرية الساحقة من البشر في هذه الشبكات هو أن تعتاش خانعة على فتات ما ترميه مراكز العولمة وأن تكون دائماً زبائن نهمة لسلعها. وما بقيت المجتمعات أسيرة هذه الشبكات فلا مفرّ من الانحطاط في مستوى البشرية عاجلاً أم آجلاً – هذا هو التحذير الذي لم يكف كمال جنبلاط عن إطلاقه منذ نهاية الأربعينات والذي عبّر عنه ميثاق الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أعلن في الأول من آيار 1949 على نحو عجيب سبق فيه الشرق بأشواط بل وكثيراً من الغرب أيضاً. الإنسان الضعيف/المريض/ المأزوم/ المنقسم/المستلب/ العابر/ المستتبع/ الذي لا يسأل ولا يتساءل/ هو إنسان هذه الحضارة المادية الآلية المسرعة والمتسلطة في كل شيء.

هذا هو جوهر نقد كمال جنبلاط العميق لهذا اللون من المدنية أو الحضارة الآلية، نقد مبني ليس فقط على التحليل المنطقي والدقيق، وإنما أيضاً على ألاف الشواهد والأدلة التاريخية والواقعية، والآف الإفلاسات والأزمات التي تتنقل دورياً كل بضع سنوات فتسحق هذا البلد أو ذاك، وتترك معظم أبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة فيه – كما رأينا حتى في أمريكا وقبل أيام في فرنسا – بلا عمل أو ضمانات ولا حتى سكن.

ولا نحتاج اليوم إلى شواهد إضافية لنرى كيف باتت البشرية منذ فترة، وبفعل هذا النمط من الحضارة، بشرية مريضة، مريضة الجسد والروح. لا تعالج أزمة إلا وتبعث اثنتين، ولا تداوي مرضاً إلا وتؤسس لعشرة أمراض جديدة، اجتماعية وجسدية ونفسية. أكثر من ذلك، لقد تلاعبت هذه الحضارة الزائفة على نحو خطير بعقول البشر فزيّفت الحقائق وبدّلت في المعايير والمقاييس: فبات الصحيح خطأ والخطا صحيحاً، وبات الجمال بشاعة والبشاعة جمالاً، وباتت الصحة والاتزان مرضاً أما المرض واللا-اتزان فباتا هما الصحة المزعومة.

ببساطة، لقد غدا الانحراف هو المعيار أو القاعدة: فكل ما هو منحرف جميل وصحي وطبيعي وعادي وشائع ويجب أن يحتذى في كل شيء، في التربية والسلوك والتفكير، أما الذي يتجرأ على رفض ذلك فهو المريض وغير الطبيعي والمتخلّف والمحتاج إلى علاج! هي حضارة مقلوبة قيمها، من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق.
هكذا يريدون لشبابنا، بالترغيب والإغواء وغسل الأدمغة، أن يشعروا، وأن يفكّروا، وأن يتصرّفوا: مطلوب منهم فقط، كما قال كمال جنبلاط حرفياً، أن يكونوا “حيوانات إستهلاكية” خانعة لا أكثر!

لهذه الأسباب، ولغيرها، تبدو البشرية اليوم – وليس نحن كلبنانيين وعرب فقط – في أمس الحاجة لأن تعود إلى أمرين اثنين معاً: إلى كمال جنبلاط الإنسان، كسيرة أخلاقية نموذجية هي الأكمل على الإطلاق، وإلى كمال جنبلاط الأفكار كمنجم لا ينضب لمعالجات وطرائق تفكير ومقاربات كان فيها ليس عبقرياً فقط بل متقدماً على هذا الشرق بخمسين سنة على الأقل.

ولهذا تحديداً، لا يزال فكر كمال جنبلاط غنياً، حيّا، ينبض، ولا يزال ملهماً، وكما كان على الدوام منذ أواخر الأربعينات وإلى لحظة استشهاد صاحبه أواخر السبعينات من القرن الماضي.

ماذا اقترح كمال جنبلاط في مواجهة هذه التأزم الذي كان سائداً، عالمياً وعربياً ومحلياً أيام كمال جنبلاط – وهو لازال كذلك على الأرجح بل ازداد تأزماً وانفتحت الأبواب لأكثر من جهنم جديدة واحدة ولشياطين جدد يتوالدون يومياً، في العالم عموماً كما في عالمنا العربي.
باختصار شديد، ولأن المقام لا يسمح لمطولات تفصيلية، أكتفي بعناوين مشروع كمال جنبلاط الإصلاحي، بل الثوري، لعلاج متدرج لأزمة العالم الحضارية عموماً، ولأزمتي العالم العربي ولبنان خصوصاً.

في مواجهة الحضارة المادية الآلية العمياء الممسكة برقاب الإنسان والمجتمعات على مستوى العالم، اقترح كمال جنبلاط أن يجري تدرجاً وعبر المعرفة والتربية والعمل السياسي والاجتماعي السلمي وإن اقتضى الأمر بالثورات بناء حضارة بشرية جديدة محورها البشر لا المادة، وغايتها القصوى سعادة الإنسان وتحقيق ذاته لا الربح المادي المباشر بكل الوسائل وعلى حساب كل شيء، من تدميرالبيئة وصولاً إلى تدمير القيم والتوازن الفردي والاجتماعي.

ولتحقيق ذلك فالطريق الأقرب والحتمي هو بتدمير الهيكل الفلسفي والاقتصادي الذي قامت عليه الحضارة الآلية المادية المستهلكة، فلسفة الرأسمالية المتوحشة والاقتصاد الحر المتفلت من كل مراقبة ومن كل هدف اجتماعي، وإبدالهما باشتراكية إنسانية من جهة وباقتصاد منتج متوازن جديد من جهة ثانية، هدفهما معاً بناء “مجتمع الكفاية والعدل” الذي يوفر القاعدة المادية للانطلاق بعد ذلك لبناء المجتمع الحديث العادل والإنسان الحرّ السعيد المتوازن – والذي يجب أن يكون الهدف الأخير لكل نظرية أو عقيدة أو نظام سياسي أو مسعى بشري. لكن جنبلاط رأى هنا أمرين، الأول أن استبدال الرأسمالية المتوحشة لا يكون بشيوعية متطرفة هي الأخرى: فكلاهما يلغيان حرية الإنسان، ويحولان دون تحقيقه لإنسانيته. والثاني، أن التغيير الاقتصادي الخارجي لا يكفي وحده، بل المطلوب تغيير معرفي وروحي من الداخلي أيضاً.

الحديث في فكر كمال جنبلاط الموسوعي الريادي الرؤيوي المستقبلي يطول ويطول، لكن المناسبة لا تسمح بأكثر من هذه الإشارات – ويمكن لمن يرغب العودة تفصيلاً إلى كتابي “كمال جنبلاط …لزمن آخر، في الفلسفة والسياسة والدين والشعر” ، وإلى كتب وأعمال آخرين أيضاً، ففكر كمال جنبلاط بحر في وسعك أن تبحر فيه باستمرار، وأن تجد فيه الجميل، والممتع، بل المثير؛ وأن تجد فيه الحقيقة، والإخلاص للحقيقة في آن معاً.
هي المهمة السامية التي نذر لها كمال جنبلاط حياته، والتي يجب أن تنهض لها الطلائع الواعية من مجتمعنا، رجالاً ونساء، من كل الطوائف والفئات الاجتماعية، وبخاصة من الشباب الذي يبقى لكمال جنبلاط أمل التغيير حاضراً ومستقبلاً.

(الأنباء)