العودة إلى كمال جنبلاط

رشيد درباس (النهار)

مفهوم الأدب هو احترام النفس

واحترام الآخرين، ومن لا يحترم نفسه

فكيف يصح له أن يتوجه إلى الآخرين بالاعتبار والاحترام

كمال جنبلاط (أدب الحياة)

تزاحمت الموضوعات في ذهني على مساحة المقال الضيقة، رغم أنني عقدت العزم، في افتتاحيتي السابقة على الاهتمام بالأمور الثانوية، لأن الأمور الكلية خرجت من تحت السيطرة والإرادة، وأصبحت مرتهنة للمشغلين الخارجيين. ولكنني متأكد الآن من أننا محكومون بالشلل التام، لأن ” الثانويات” التي دعوت للاهتمام بها يجري تجميدها بوساطة القلوب الباردة التي اتخذت قراراً مبرماً بتحويل الدولة إلى ثلاجة تستهلك الطاقة الكهربائية كلها، خدمة للظلام ومنعاً لسريان الحرارة في أوصال الوطن. فهل من تبرير تقني للعتمة المستدامة سوى العتمة السياسية؟ وهل من تفسير علمي لتراكم النفايات في الشوارع، سوى النفايات السياسية التي تحدث عنها الرئيس تمام سلام؟

أما رأينا كيف يستغيث الاقتصاد ويستجدي تأليف حكومة ولو ورقية فيؤجل طلبه إلى بعد خمسة شهور، ثم إلى بعد بعد خمسة شهور، فيما نواقيس الخطر تتثاءب دقاتها على أبواب الأسماع، التي أعارتنا قلوباً صماء؟

دعوت في مرة سابقة لاسقاط التورية، واللجوء إلى الكلام غير المباح، لأننا، وقد أخذتنا دوامة الصراعات والبذاءات والخطابات، غفلنا عن أجيال جديدة، تنظر إلينا بسذاجة الدهشة، وبراءة الأزدراء. أمس زارتني في منزلي في طرابلس ثلاث فتيات من “الكوليج بروتستانت” يبحثن لدى وزير سابق للشؤون عن دور يمكن أن تقوم به الشبيبة لمكافحة الفقر، فلم أجد جواباً سوى كلمة واحدة وهي “الوطنية”، لأنها وحدها التي تخرج الناس من مربعاتهم المذهبية، ووحدها تطلق العنان لعجلة الدولة لتكون هناك فرص للتنمية وامتصاص البطالة ومكافحة الفقر وما ينتج منه من ويلات، ولأنها وحدها تقطع التيار عن تلك ” الثلاجة” المزمنة، وتعيد تحويله إلى البيوت والمصانع. ولقد تعمدت في ذلك اللقاء، ألا أتعرض لما يحدث على الشاشات والفيديوات القميئة، بأي إشارة، لأنني خشيت أن أقع تحت طائلة ازدرائهن، فأنا واحد من أجيال الفاشلين الذين شهدوا الانهيار، أو أسهموا فيه، وما زالوا يتحدثون لغة كاذبة خالية من الروح.

ورغم التزاحم الذي أشرت إليه في أول المقال، فلقد توصلت إلى خيط حنون يؤلف بينها، إذا تَتَبَّعْتَ طرفه، وَجَدْتَه متصلاً بنبع نوراني، له اسم سياسي هو الشهيد كمال جنبلاط، أما اسمه الحقيقي، فهو الفيلسوف الإنساني المنفتح على المعرفة الشمولية، نهلاً وسكباً، والشاعر الرؤيوي الذي اتخذ من اشراقيته إيقاعاً لشعره، والراهب المتنسك المتعفف، المتأدب بآداب الحياة وما يليق بها، لأنه من أهل اللياقة واللباقة، وهو المبتكر لأطرف الصيغ الكلامية للتعبير عن أصعب الظروف. لقد انبثق هذا الخيط أمامي بمناسبة مئوية كمال جنبلاط التي ستكون موضوع ندوة في العاشر من هذا الشهر، تحت عنوان كمال جنبلاط والكتاب، وبما أنني أحد المتحدثين مع الصديقين الكبيرين غازي العريضي وسمير عطالله، رأيت النور يلهمني إلى أن أستغيث به، وبأدب الحياة وبعفة اللسان، وإطراقته الحَييَّة، علَّنا نعيد الاعتبار إلى ما استشهد من أجله ذلك الرجل العظيم، والذي رضي بمصيره الذي قرأه بين السطور، قبل أن يقرأه له، استاذه الهندي شري أتمانندا. فالقارىء كمال جنبلاط، كان من كبار الكتاب ومن أنبل الساسة، ومن أكثرهم لباقة وأدباً وخفة ظل، وكان في الوقت عينه رهين المحبس السياسي الذي جلس فيه راضياً مرضياً، منتظراً تنفيذ حكم الإعدام به، لأنه ارتكب التقدمية والعروبة والاستقلال عن سابق تصور وتصميم، ولقد قال في هذا: “الحياة شعلة مضيئة، أَمْسَكْتُ عليها بيدي، وعليَّ واجب أن اجعلها أكثر ما تكون نوراً وتألقاً، قبل أن أسلمها للأجيال القادمة”.

لقد افتدى الوطن، واستودع ذكراه في ذاكرة الشعب الفلسطيني، ونال أعلى وسام العظماء من الاتحاد السوفياتي، وبكاه التقدميون في العالم، وها نحن نعود إليه في مئويته مستنجدين بتعاليمه وكتبه وشعره، وأخلاقه، وما زرعه في حميم عواطفنا، وما تمتعت به طائفته على مر التاريخ، طليعة عروبية وهمزة وصل، وأقلية في صميم قيادة الأكثرية. وإذا كانت مشاحنات تحدث في الماضي بينه وبين خصومه السياسيين، فذلك عرض لا يقاس عليه، ولا ينبغي أن يكون ذريعة لإنتاج لغة هي الآن أشبه بالكبريت المتحفز ضمن حقول من المحروقات.

لقد تعرض لبنان منذ نكبة 1948، لموجات من التعسف كانت تحول دون اكتمال بنيته الديموقراطية، وتمام صيغة تكوينه إلى أن أصبح التعسف استبداداً امتد منذ العام 1969، ولم يزل، وإن تغيرت أسماء المستبدين. لقد جابه لبنان الاحتلال الاسرائيلي متحداً، فإذا ما تم طرد اسرائيل، حققنا لها غرضها بالتشرذم والانقسام إلى حد نسيان أمر العدو للتفرغ لمعاداة الأخ والجار.

للاستبداد وجوه، ومنها الخطاب السياسي الذي يمس الأماكن الحساسة في النفوس، فيثير الحفائظ ويوغر الصدور، ولا سيما إذا صدر من فوق منصة عالية النبرة والقوة لأن الأذى المعنوي قد يكون عصياً على الاندمال بأصعب من إعادة الإعمار.