بلى لقد سقى أهل العقبة الاستقلال دماً

د. كليب كليب

تقع بلدة العقبة في السفح الغربي للهضبة التي تربض فوقها بلدة راشيا الوادي. وتبدو العقبة بالنسبة للناظر إليها كأنها حيٌ من أحياء راشيا، إذ أنها محاطة بخراج راشيا من جهات ثلاث على شكل هلال يمثّل حوالي 300 درجة من درجات الدائرة الـ 360. كما أنّ العديد من الأسر من بلدة راشيا كانت تمتلك أراضٍ في بلدة العقبة… والعكس صحيح أيضًا.

ويذكر سعد كليب في مذكراته، التي سيصار إلى نشرها في وقت قريب، أنه عندما كان يتم إضرام النيران على قمة جبل الشيخ أو قمم التلال الأخرى المقابلة لبلدة راشيا والفاصلة بين لبنان وسوريا حاليًا – وهو ما كان ينبئ عن حصول اعتداءات على إحدى قرى الجولان أو إقليم البلاّن (المنطقة الممتدة من رخلة إلى حضر السوريتين)- كان ينطلق المئات من الرجال من منطقة راشيا باتجاه تلك القرى دعمًا لسكانها، وأنّه في القرن التاسع عشر كان جده الشيخ كليب، وهو من أبرز فرسان زمانه، هو الذي يحمل بيرق منطقة راشيا في تلك المهمات.

إزاء عمق تلك الروابط لم يكن مستغربًا أنّ أهالي منطقتي حاصبيا وراشيا قد تابعوا باهتمام شديد أخبار الثورة السورية الكبرى منذ انطلاقها في ربيع العام 1925 واستقبلوا بالترحاب قدوم الثوار من مجدل شمس في مطلع شهر تشرين الثاني من العام 1925 ويشير بعض المصادر الى أن مجدل شمس كانت تتبع في بعض الأوقات لقضاء راشيا قبل التعديل النهائي للحدود.

وقد عزّز تعجرف الضباط الفرنسيين والاستفزازات والاعتداءات التي مارستها الميليشيات المحلية المتعاونة معهم (خاصة فرقة الصباحيين) من تعاطف سكان وادي التيم مع الثورة السورية الكبرى. وأتت بعض الأحداث لتزيد من حجم هذا التعاطف. ويذكر المؤرّخ حسن أمين البعيني، إستناداً الى “الكتاب الذهبي لجيوش الشرق”، في كتابه “سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى”حادثتين تؤكّدان مدى تأثير هذه الأحداث في مسار الأمور: المجزرة التي نفذها الفرنسيون والميليشيات التابعة لهم في بلدة قلعة جندل السورية ومقتل أحد تجّار السلاح في بلدة عيحا.

وفي التفاصيل أنه وفي أواخر شهر تشرين الأول من العام 1925، وعلى أثر رفض أهالي قلعة جندل تأدية 200 بندقية للفرنسيين لاعتبار السكان أنّ هؤلاء سيقومون بتسليم هذه البنادق إلى الميليشيات المعادية لهم، هاجم الجيش الفرنسي وميليشياته المحلية البلدة فأخذوا منها حوالي 2000 رأس من الماعز وقتلوا ما لا يقل عن 300 شخصًا. وكان من بين الضحايا عدد من الأسرى الذين قضوا حرقًا بعد أن تمّ أسرهم وتجميعهم في أحد البيوت وأضرام النار فيه، وقد وجدت 80 جثة في جنبات البلدة. وقد أدّت هذه المجزرة إلى خلق نقمة عارمة في صفوف سكان منطقة راشيا الذين راحوا يشترون السلاح تحوطًا لِمَ يُمكن أن يستجد عندهم.

في تلك الفترة قام الفرنسيون بقتل أحد تجار السلاح من بلدة عيحا أثناء عودته من بلدة قلعة جندل المجاورة فردّت مجموعة من ثوار بلدة عيحا بقتل ثلاثة جنود فرنسيين انتقامًأ لإبن بلدتهم. والجدير بالذكر أنه حينما عاد هؤلاء إلى بلدتهم بعد تنفيذ مهمتهم لاقاهم أبناء عيحا بالحدي والزغاريد وإطلاق الرصاص.

عندها كانت الأمور قد وصلت إلى نقطة اللاعودة فتم تشكيل مجموعات عسكرية في القرى وبدأت عمليات استهداف الجنود الفرنسيين الذين اضطروا إلى التمترس في الثكنات وتحاشي التجول في المنطقة، إلا عند الضرورة القصوى، منذ الخامس من تشرين الثاني حتى الرابع والعشرين منه.

أكثر مجموعات القرى فاعلية كانت مجموعة العقبة. لقد قام بالمواجهة المباشرة الأولى مع الفرنسيين كل من: سعد كليب، فارس سعد (كليب) وقد استشهد في الثاني والعشرين من تشرين الثاني على سطح قلعة راشيا، يوسف حمّاد، يحيى الهبري (استشهد في معركة الفالوج)، يوسف الهبري (أعدمه الفرنسيون لاحقًا بتهمة قتل أحد الجنود الفرنسيين)، سليم قسّام و جميل عبدالله (حامد). وجرت المواجهة حين حاولت قوة فرنسية الدخول إلى بلدة العقبة في الحادي والعشرين من تشرين الثاني 1925 فتم التصدي لها فقتل قائد القوة الضابط Tiné Simone وعدد من جنوده. إثر هذا التصدي البطولي، انخرط العشرات من أبناء البلدة في المواجهات حيث فشل الفرنسيون ثلاث مرات في احتلال البلدة.

لقد امتدت دائرة مشاركة ثوّار العقبة في المواجهات من عين حرشه جنوبًا إلى الفالوج شمالاً مرورًا بمواقع الدلب، ضهر الأحمر، كفرمشكي، عين اللبوة بالإضافة إلى مشاركتهم الفاعلة في الهجمات التي استهدفت السيطرة على قلعة راشيا.

في الرابع والعشرين من تشرين الثاني انقلبت الأمور رأساً على عقب مع وصول حملة عسكرية فرنسية كبيرة قدمت عبر ممر البيرة الرفيد فاضطر الثوّار إلى فكّ الحصار عن قلعة راشيا والانسحاب من المنطقة. أما ثوّار العقبة فقد انكفأوا إلى داخل بلدتهم وخاضوا فيها معركة بطولية لم يستطع الجيش الفرنسي بنتيجتها احتلال البلدة إلاّ بعد تدميرها بالكامل وإزالتها من الوجود. وقد استشهد في المعركة 59 شهيدًا من مختلف عائلات البلدة. وأعدم الفرنسيون 25 شخصًا من المسنين والنساء والأطفال وقضى 6 أشخاص خلال نزوحهم إلى سوريا. وهكذا انتهت واحدة من أقسى المعارك في ثورة الـ 1925 التي كانت أشبه بعملية انتحار جماعية في مواجهة جيش كبير جدًا. استشهد بنتيجة المعركة معظم رجال البلدة (باستثناء عشرة منهم تقريبًا) ونشأ جيل كامل من الأيتام- وبقيت جثث الشهداء ملقاة في العراء في الخرائب وبين البيوت المدمّرة وبقيت البلدة مهجورة لسنوات. أما من بقي حيًّا فقد لجأ إلى جبل الدروز لفترة من الزمن حيث يعيش أقرباؤهم آل العقباني الذين كان قسمٌ منهم قد ترك العقبة في الهجرة الجماعية التي شهدتها منطقة وادي التيم في العام 1866 وقسم آخر بسبب عمليات تهجير سابقة جرت نتيجة تنكيل الشهابيين ببعض أهالي العقبة (آل كليب خاصةً). ومن المؤسف أنه لم يتم التعويض عن الشهداء والضحايا وممتلكاتهم في العقبة والمنطقة بأكملها بينما تم التعويض عن ضحايا الجهة المتعاونة مع الفرنسيين وممتلكاتهم ومن خزينة الدولة اللبنانية وتم إعادة إعمار منازلهم على أحدث طراز وبسقوف من قرميد.

لقد كان مصير يوسف الهبري الإعدام لعدم تمكنه من إثبات براءته. أما سعد كليب الذي كان المتهم الأول بقيادة المواجهات العسكرية وبقتل Tiné Simone، والذي جنّد الفرنسيون العديد من الأشخاص لقتله أو لأسره، فقد تدخلت العناية الإلهية لإنقاذه. فلم تنجح التحريات لأسره أو قتله لأنه كان قد انتقل للجهاد إلى جانب سلطان الأطرش في جبل الدروز والذي ذكره حوالي عشر مرات في مذكراته التي نشرتها مجلة بيروت المساء في العام 1984. ومن مصادفة الأقدار أنه بعد 4 سنوات على المعركة وُجدت ساعة Tiné Simone بحوزة أحد المتعاملين مع الفرنسيين والذي وشى بسعد كليب وكان قد اشتراها من أحد الثوار السوريين فقُبض على الواشي وحكم عليه بالإعدام وتم وقف التحريات عن سعد كليب. وفي وقت لاحق تم تخفيف الحكم عن الواشي إلى المؤبّد وبعد سنوات خرج من السجن بموجب عفو عام في البلاد.

لقد قاتل أهالي العقبة في العام 1925، كما قاتل أجدادهم في مقاومة جيش إبراهيم باشا التركي وحملة إبراهيم باشا المصري خاصةً في معركة بكّا، كما قاتل أبناؤهم لاحقاً في المراحل الصعبة.

إن الدماء التي سُكبت في الرابع والعشرين من تشرين الثاني 1925 في العقبة وتلك التي أُريقت قبلاً في قلعة جندل زعزعت مكانة فرنسا الدولية وكانت واحدة من الأسباب التي أدّت الى الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1943.

أما بلدة العقبة فقد عمرّها أبناؤها من جديد بصورة رائعة ففيها ما يزيد عن ثلاثة آلاف نسمة وأكثر من مئتين وخمسين شهادة جامعية، وينتشر أبناؤها على امتداد الوطن.

لست بمؤرّخ… وما رغبت يوماً في كتابة ما يساهم في نبش القبور أو الإساءة الى الوحدة الوطنية، وقد تكون الإنتدابات اللاحقة أكثر ظلماً… ولكن لأهلنا علينا حق.