مشاعر إستقلالية/ بقلم دانيل عبد الخالق

أما وقد نسفت مبدأ الخِطابَيْن والوجهين في أسلوبي وحياتي وما يحتويه هذا المبدأ من مراوغة وضرر على المواطنة الصالحة والعلاقة بين مكونات الوطن الدينية والسياسية، وبما أنني لا أتردد في انتقاد التقليد عندما يفرغ من مضمونه، أي سبب ولادته، حتى ولو كان هذا التقليد يحمل قداسة دينية في نظر من لا يُميّزون بين التقاليد والعقائد، فقد وجدت من الطبيعي أن أجهر – كمهتمّ في الحوار بين أتباع الديانات والثقافات – بشعوري في عيد الاستقلال، غير آبهِ بطبلٍ ولا زمرٍ ولا عنفوانٍ ناتج عن ارتفاع نسبة الأدرينالين لسماع الموسيقى العسكرية أو نظم وتركيب بعض الشعراء والملحنين.

لبنان لو نظرنا إليه بواقعية واختصار، لوجدناه على حقيقتين:

– الحقيقة الأولى هي أنه بقعة جغرافية طبيعية ما قصّر مَن وصفها بأنها قطعة من الجنة على الأرض، وهي فسيفساء من التنوع الديني ما قصّر البابا بوصفها رسالةً تسمو فوق معنى الوطن.

– الحقيقة الثانية هي أنه حاول منذ فخر الدين أن يتحرر من الإدارة السياسية الإقليمية ليعطي نفسه فرصة من التقدم السريع والنمو الاجتماعي والاقتصادي، دينامية لا تتعثر بسياسات السلطة العامة المهيمنة على المنطقة.

بالنسبة إليّ، إن هاتين الحقيقتين هما من تُعطيان اسم أو كلمة “لبنان” وهجاً وبريقاً، ولأجلهما اختلطت دماء أجدادي والشهداء بتراب هذه الأرض، ولبنان بالنسبة إليّ هو وطن لأنه يجسّد هاتين الحقيقتين، وهما مَن تستأهلان الشهادة والتضحية من أجلهما، أما أن يتحول حبي للبنان تقليداً، فيجب عليّ حُبّ اسمه حتى ولو فرغ من هاتين الحقيقتين، وحتى لو صار مظلّة لكل أنواع الفساد والظلم، كأن أصدّق فريقاً يَعِدُ بالإصلاح منذ أكثر من عشر سنوات ولم يُفلح، وحجّته أن شركاءه في الوطن يعطّلون مسيرته، وهو الفريق نفسه الذي لا يَعذر شركاءه الذين لم يستطيعوا إصلاحاً يوم كان لبنان تحت الوصاية المباشرة، وشتان ما بين تعطيل الشريك وما بين تعطيل الوصي.

والأصعب من ذلك كله، هل أنا مُجبر على افتداء اسمٍ يُجبرني على التناقضات؟ فيتغنّى بعض ساسته على كلّ منبر أنه رسالة العيش المشترك، ثم لا يختمون طلعتهم إلا بالهجوم على الآخر، مُستخدمين ألفاظاً طائفية تدغدغ مشاعر ناخبيهم؟ وهل أنا مُجبر على التعلق باسم تُستباح فيه حريتي وكرامتي وتُضرب حقوقي كمواطن بعرض الحائط تحت شعارات المطالبة بحقوق الطوائف، فلا ربحنا وطناً ولا ربحت طائفة؟

لهذا ولكثير غير هذا، لدي اليوم كل الجرأة لأن أقول إن لبنان يعنيني ما دام يحمل القيم التي صنعته وعظّمته. أما أن يفرغ منها فلا يعنيني اسمه تقليداً. فالماضي عار علينا ما لم يكن أساساً لنجاح الحاضر.. وأبقى وفياً مجاهداً للقيم الإنسانية السامية كالدعوة الدائمة إلى قبول الآخر كما هو، ومعرفته دون الحكم عليه من خلال معتقدي، وكذلك إيماني أن جمال هذه البقعة الجغرافية تعنيه كما تعنيني، فنتشاركها في أفضل إدارة سياسية تؤمّن كرامتنا وحماية قيمنا، وإن كان اسم لبنان هو تاج لإدارة هذه القيم والثوابت. فلبنان عندها هو تاجنا، وهو كل أملنا لنشعر باستقلالنا، فنستمتع بسماع موسيقى المجد حينها بدلاً من سماع أنين الجياع والمحرومين، وشكاوى المقهورين والمتذمّرين، ونداءات المسجونين ظلماً دون محاكمة ودون رأفة، ومطالبات العاطلين عن العمل والساعين لسَتر حالهم.

نعم.. فارق كبير بين لبنان كتاج للقيم أراد له فخر الدين إدارة سياسية مستقلة ليسابق الزمن نضارة وحضارة، وبين لبنان الذي يستعملونه حالياً في عكس غايته ومعناه فتحوّل مظلة للفساد والانحدار وإذلال الكرامة الإنسانية.